هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مع قرار الحرب الذي اتخذه بوتين، عاد الجدل العربي والإسلامي فيما يتعلق بالموقف منها؛ لا أعني واقعيا من حيث الاصطفاف المؤثر، ولكن شعوريا وحسب، من حيث الأمنيات.
المشكلة أن يتمّ التعامل مع الأمر، كما لو كان مباراة رياضية بين فريقين؛ علينا أن نشجع أحدهما، وليس صراعا دوليا، له تداعياته، ويطرح أسئلة كبيرة بشأن المواقف التالية من قبلنا كأمّة، أكانت العربية أم الإسلامية.
لو حدث ذلك في زمن آخر، قبل التدخل الروسي لنصرة طاغية سوريا، وعموم موقف بوتين من الربيع العربي، لكان الجواب محسوما أو شبه محسوم، وبالطبع في سياق الشماتة في أمريكا والغرب، مع العلم أن كل القوى الدولية كانت ضد "الربيع العربي" وليس روسيا والصين وحدهما، وهو أمر طبيعي، لأن تحرّر هذه الأمّة (بتراثها وإمكاناتها الهائلة)؛ يمثّل خطرا على مصالح كل القوى الكبرى.
وإذا أضفنا الصين إلى المعادلة؛ وهي المنافس الأول للغرب، فالأمر كذلك أيضا، إذ أن موقفها من قضية الإيغور، بجانب وقوفها مع الطغاة، وضد الربيع العربي أيضا، ربما ساهم في الحساسية تجاهها، خلافا للأمر قبل ذلك.
نتذكّر هنا تبدّل المواقف، بحسب الظروف الموضوعية القائمة، فحين كان الاتحاد السوفياتي يغزو أفغانستان، كانت الغالبية العربية والإسلامية ضده، وفرحنا بهزيمته، ثم ما لبثنا بعد ذلك أن عدنا إلى عداء أمريكا بعد انتفاضة الأقصى؛ وإن لم نغادره أصلا، ثم تصاعد الأمر بعد غزو العراق وأفغانستان.
ما ينبغي أن يتذكّره الجميع بعيدا عن حساسيات المرحلة الراهنة، هو أن معضلتنا الكبرى كأمّة عربية وإسلامية، كانت مع الغرب طوال القرون؛ منذ انطلاق المدّ الإسلامي، وصولا إلى المرحلة الأخيرة التي كانت الأكثر حساسية، أعني منذ ما قبل سقوط الخلافة العثمانية وحتى الآن، وحيث أمعن ذلك الغرب فينا احتلالا واستعمارا وتقسيما وإذلالا ونهبا للثروات، وصولا إلى زرع الكيان الصهيوني في قلب المنطقة، لتكريس شرذمتها، ثمّ المضي في برنامج رعايته وتقويته.
من هنا يمكن القول إن تراجع الغرب يمثل تطوّرا بالغ الأهمية بالنسبة لنا كأمّة، ولا نتحدث هنا عن سؤال البديل، لأن ما يجري (قبل الغزو الروسي لأوكرانيا) كان واضحا، ليس في اتجاه هيمنة صينية أو روسية، بل في اتجاه تعددية قطبية ستسمح للقوى المستضعفة باستثمار الصراع لتحقيق بعض مصالحها. وتلك هي سنّة "المدافعة" الربّانية التي طالما أشرنا إليها، مصداقا لقوله تعالى "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضل على العالمين". والنص يقول "على العالمين"، وليس على المسلمين وحسب، لأن أيّ قوة مهيمنة مهما كانت، لا بد ستطغى. ولو هيمنت الصين على حساب أمريكا، لما ترددت في الطغيان وفي النهب، فضلا عن أن تكون روسيا التي يحلم رئيسها؛ ليس باستعادة إرث الاتحاد السوفياتي، كما يردد البعض، بل باستعادة فضاءات روسيا القيصرية.
هذه التعددية القطبية الراهنة؛ تقدّم فرصا كبيرة للقوى الصغيرة والمستضعفة، وبالطبع للقوى الإقليمية، وستكون الثمار مرهونة بالقدرة على استثمارها على النحو الصحيح.
وفي حين يبدو حالنا سيئا جدا في ظل النزيف الذي لم يتوقف في الصراع بين معسكريْ الثورة المضادة العربية، وبين مشروع التمدّد الإيراني؛ بجانب تصاعد طموحات الكيان الصهيوني بتصفية القضية الفلسطينية في ظل هرولة مقاولي التطبيع العرب وبؤس القيادة الفلسطينية، فإن استمرار ذلك ليس قدرا، ويمكن لتفاهمات لاحقة، بجانب اندلاع انتفاضة كبيرة في الساحة الفلسطينية، أن تعيد ترتيب الأولويات، بحيث يمكن الحديث مع القوى الكبرى بروحيّة مختلفة، وتحقيق مطالب عادلة؛ بعيدا عن الارتهان لهذ الطرف أو ذاك. ولا ننسى أبدا أن المشروع الصهيوني لم يكن شيئا بدون الدعم الغربي. ولا شك أن تراجع أمريكا والغرب، سيصبّ في مصلحة الصراع؛ ليس بدفن مشروع تصفية القضية الفلسطينية وحسب، بل بتحقيق إنجاز كبير، ولو تمثّل راهنا بفرض انسحاب دون قيد أو شرط من الأراضي المحتلة عام 67؛ تمهيدا للتحرير الكامل.
سيقول البعض إن القوى الثلاث الكبرى (يمكن إضافة الهند أيضا في ظل تطرّف نظامها الحالي)؛ كلها معادية للإسلام، وكذا لأشواق شعوبنا في الحرية والتحرّر، لأنها تدرك تبعات ذلك على مصالحها، كما أنها منحازة بهذا القدر أو ذاك للكيان الصهيوني، وقد يكون ذلك كله صحيحا إلى حد كبير، لكن المواقف السياسية لا تسيّرها الهواجس، ولا المعتقدات والمخاوف وحسب، بل تحدّدها موازين القوى، وما هو ممكن وغير ممكن، وحين تكون أمّتنا بهذا الثقل الكبير جدا في العالم، فسيكون على الجميع أن يخطب ودّها كي يكسبها إلى طرفه، ويحقّق معها مصالحه، ومن هنا يمكن اللعب على التناقضات، وصولا إلى تحقيق الأهداف الكبرى، لا سيما أن أحدا من القوى الثلاث لا يمكنه تهديد هويّة الأمة، كما كان الحال مع الشيوعية سابقا.
إنها فرصة كي يكون لهذه الأمّة مكانها تحت الشمس؛ يوازي القوى الكبرى، ويتحدث معها بمنطق النديّة، وليس التبعية، لكن ذلك يحتاج لكثير من العقل والرشد الذي نفتقده راهنا، لكن بقاء الحال على بؤسه ليس قدرا بكل تأكيد.