بعد أكثر من أربعة عقود،
ما تزال الجمهورية الإسلامية الإيرانية تخوض الصراع نفسه الذي خاضته عندما أسقطت
حكم الشاه في مثل هذه الأيام من العام 1979. يومها رفعت الثورة بقيادة الإمام روح
الله الموسوي الخميني شعارات عديدة، في مقدمتها الاستقلال والحرية والنظام الإسلامي.
ولتأكيد تلك المبادئ كانت هناك ثوابت في سياستها الخارجية، أهمها: قضية فلسطين
والتصدي لما أسمته «الاستكبار العالمي» أو «الشيطان الأكبر» متمثلا بالولايات
المتحدة الأمريكية، ووحدة المسلمين ودعم المستضعفين.
كان من أولى الإجراءات التي نفذتها بعد انتصار الثورة،
قطع العلاقات مع «إسرائيل» والنظام العنصري في جنوب أفريقيا، ووقف إمدادات النفط
لهما. وتبع ذلك قطع العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد ثمانية شهور من
انتصار الثورة. جاء ذلك بعد سيطرة الطلاب الإيرانيين على السفارة الأمريكية في
طهران واحتجاز دبلوماسييها 444 يوما. وبرغم مرور الزمن وتغير الأمور، فقد بقي هذا
المشهد ثابتا حتى لكأن الزمن قد توقف. فما تزال طهران ترفض مد الجسور مع واشنطن،
وما تزال تصرّح بسياساتها ليس إزاء فلسطين فحسب، بل حول تمدد النفوذ الأمريكي في
العالم، خصوصا في الشرق الأوسط. إنها واحدة من القصص التي هي أقرب إلى الخيال منها
إلى الواقع.
صحيح أن كوبا بقيادة فيدل كاسترو، الذي أسقط في 1959
نظام الرئيس فولجينسيو باتيستا المدعوم من أمريكا سبقت إيران في القطيعة مع
الولايات المتحدة، ولكن بقي ذلك الفصل إقليميا في أغلبه، برغم «أممية» المشروع
الشيوعي الذي كان يتبناه كاسترو المتحالف مع الاتحاد السوفياتي آنذاك.
وبلغ التوتر يومها ذروته
في العام 1962 عندما أَظهرَت صورٌ التُقطت من طائرة التجسس الأمريكية «لوكهيد U-2»، وجودَ قواعد
صواريخ سوفيتية نووية تحت الإنشاء في كوبا. وتُعتبر حادثة الصواريخ الكوبية أول
مواجهة مباشرة بين الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف، والرئيس الأمريكي جون كينيدي،
فضلا عن كونها الأساس لتدشين اتفاقيات كبرى من أجل الحدّ من الأسلحة النووية على
مستوى العالم.
لقد أصبح واضحا أن القطيعة بين طهران وواشنطن لم تؤد إلى
نزاع مسلح مباشر بين الطرفين، ولكن معارك أصغر حجما بينهما لم تتوقف. هذه المعارك
أدت إلى توترات كبيرة كادت تشعل فتيل الصراع العسكري بين الطرفين، ولكنهما أحجما
دائما عن المواجهة المباشرة؛ نظرا لعدم قدرة أي منهما على التنبؤ بنتائجه؛ فقبل
عامين شهد التوتر بينهما ذروته بعد إقدام الولايات المتحدة على اغتيال الجنرال
قاسم سليماني، الذي كان يعتبر الرجل الثاني في إيران بعد آية الله خامنئي، ومعه
أبو مهدي المهندس، قائد الحشد الشعبي العراقي. وجاء رد الفعل الإيراني باستهداف
قاعدة عين الأسد بأكثر من 20 صاروخا، وما يزال التهديد بالثأر لمقتل سليماني
مستمرا، وقد أحجمت أمريكا عن الرد على القصف المذكور لخشيتها من تبعات ذلك.
الإيرانيون يدركون الدور الإسرائيلي في الضغط على أمريكا وحلفائها لتعقيد المفاوضات الجارية في فيينا، لاحتواء الصناعات العسكرية الإيرانية خصوصا في مجال الصواريخ التي أتقنتها إيران وزودت حلفاءها الإقليميين ببعض منها
وشهدت التسعينيات هدوءا نسبيا بسبب
انشغال أمريكا بأزمة الكويت واستهدافها نظام صدام حسين حتى إسقاطه في العام 2003.
وكان موقف إيران مؤسسا على مصلحة مشتركة مع أمريكا، لكن سرعان ما تغير الأمر بعد
ذلك؛ فأصبح العراق دائرة جديدة من دوائر الصراع على النفوذ بين إيران وأمريكا.
بالإضافة للمعارك العسكرية المحدودة، هناك الحرب
الإيديولوجية والنفسية والتكنولوجية والسايبرية والاستراتيجية، وكلا الطرفين
يشاركان فيها في السر والعلن.
الأمر الواضح أن حالة من توازن الرعب تبلورت بين
الطرفين، مع اختلاف القدرات العسكرية والتكنولوجية لدى كل منهما. فبالإضافة
للمعارك العسكرية المحدودة، هناك الحرب الإيديولوجية والنفسية والتكنولوجية
والسايبرية والاستراتيجية، وكلا الطرفين يشاركان فيها في السر والعلن. ولعل
الإنجاز الأكبر الذي سطرته أمريكا في الأعوام الأخيرة، استقدام «إسرائيل» بما
تمثله من تحد مباشر لإيران إلى مياه الخليج، أي على بعد عشرات الأميال من السواحل
الإيرانية، من خلال مشروع التطبيع الذي ترعاه بين الإمارات والبحرين وكيان
الاحتلال.
إنه تطور خطير في التوازن
الاستراتيجي لم تستطع إيران حتى الآن تحييده، وليس مستبعدا أن يؤدي هذا السباق
المحموم لفتح مجال الوجود العسكري في الخليج أمام الصين وروسيا، خصوصا أن هناك
ملامح لتحالف استراتيجي يضم الدول الثلاث؛ بهدف التصدي لتوسع النفوذ الأمريكي في
الخليج والمحيط الهندي وجنوب شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي. ومع أن سياسة توازن
الرعب قد تمثل رادعا حقيقيا لمنع الحرب العسكرية الشاملة، إلا ان ذلك ليس حلا
دائما أو مفضلا لدى أي من الأطراف؛ لأن هذا التوازن قد يكون السبب المباشر لاندلاع
شرارة المواجهة العسكرية.
لكن لدى إيران أدوات ضغط أخرى. فما تزال ترعى مشروع
«الإسلام السياسي» من خلال أبوّتها الروحية له، وتعلم أن تجلياته في البلدان
العربية كافة، أصبحت مستهدفة بشكل مباشر من تحالف قوى الثورة المضادة المدعوم من
أمريكا. هذا المشروع الذي استهدف في أغلب الدول العربية بقسوة شديدة، سيظل مصدر
قلق لدى أمريكا وحلفائها. لقد استهدفت تجلياته كافة باضطهاد غير محدود وبأساليب
مختلفة للمجموعات والحركات الإسلامية.
ومن المؤكد أن هناك من
الساسة الإيرانيين من يسعى لإعادة صياغة العلاقات مع الولايات المتحدة بما يخفف
حالة التوتر المستمرة، ولكن المرشد الأعلى للثورة يؤكد أن قدر الجمهورية الإسلامية
أن تستمر في التزامها بتلك الثوابت، وأن هويتها ستتغير تماما إن قبلت المساومة على
المبادئ المذكورة.
ويخطئ من يعتقد أن الصراع بين إيران وأمريكا محصور في
مداه وآفاقه وتجلياته؛ فأمريكا لم تترك مجالا لحصار إيران إلا ولجته مستخدمة
نفوذها وتنمرها، كما هي عادتها مع من يعارضها؛ فالعقوبات الاقتصادية شاملة حتى
وصلت الدواء والغذاء؛ فقبل عامين شددت الولايات المتحدة حدة العقوبات على القطاع
المالي الإيراني، حيث امتدت العقوبات إلى تقييد وصول الأدوية والسلع الإنسانية
والأغذية، فضلا عن عزل طهران عن كامل النظام المصرفي العالمي، كما قامت سويفت، وهي
اختصار لاسم جمعية الاتصالات المالية بين البنوك في أنحاء العالم، بقطع علاقاتها
مع المؤسسات المالية الإيرانية المشمولة بالعقوبات من نظام الرسائل المالية.
مع ذلك، فاجأت طهران
العالم بقدرتها على استيعاب الآثار السلبية للحصار، وإن كانت عملتها مستمرة في فقد
قيمتها نتيجة لذلك. المتفائلون ينظرون إلى هذه العقوبات أنها من أهم أسباب قدرة
إيران على تحقيق اكتفاء ذاتي نسبي في كثير من القطاعات الحيوية، حتى في مشروعها
النووي الذي يخضع للحصار الشامل.
كما أن علاقاتها
الإقليمية لم تتراجع كثيرا، بل ربما توسعت في الأعوام الأخيرة، خصوصا أنها تتمتع
بعلاقات معقولة مع ثلاث من دول مجلس التعاون الخليجي: سلطنة عمان والكويت وقطر،
ولديها علاقات ودية مع تركيا وباكستان، بالإضافة لنفوذها في سوريا والعراق ولبنان.
مع ذلك، يظل الاتفاق النووي الذي عقدت جولات عديدة من المفاوضات بشأنه في فيينا،
المؤشر الأوضح لمدى هدوء العلاقات الغربية مع إيران أو تصاعد توترها.
الإيرانيون يدركون الدور
الإسرائيلي في الضغط على أمريكا وحلفائها لتعقيد المفاوضات الجارية في فيينا،
لاحتواء الصناعات العسكرية الإيرانية، خصوصا في مجال الصواريخ التي أتقنتها إيران
وزودت حلفاءها الإقليميين ببعض منها، ولكنهم لن يقبلوا بالتفاوض بشأنها، ويعتبرون
ذلك خطا أحمر لأنه يمس أمنهم القومي في عمقه. لذلك؛ يمكن القول بأن مفاوضات فيينا
المتعثرة ستكون البوابة الأخيرة للحرب أو السلام بين الغرب والجمهورية الإسلامية.