هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
اختارت النيويورك تايمز أن تحوصل أبرز أحداث 2021 واتجاهاته وشخصياته في إحدى وأربعين قصة انكبّت على كتابتها كتيبة من جيشها الصحافي العرمرم. وتتعلق هذه القصص، المستوحاة من أهم الأحداث التي استأثرت بالنقاش الواسع في وسائل الإعلام، بمسائل مثل: العنف في أمريكا، نظرية العرق النقدية، مستقبل العمل ووظائفه، وسبل إنقاذ الكوكب.
كما عالجت هذه القصص الصحافية، التي تمتّ إلى جنس المحاولات الأدبية بأسباب، أسئلة من قبيل: أفما تزال أمريكا قابلة للحكم السياسي (بمعنى هل تستطيع أي حكومة، بعد، أن تدير شؤون هذا البلد المعقّد الذي يزداد كل يوم تأزّما وتشرذما)؟ وهل تكون الحياة أفضل بالضرورة عندما يكون البشر متآلفين متعاونين؟ وقد سمّت الجريدة هذا السؤال الأخير «مسألة العام الكبرى» وأفردت لها نصا عرضت فيه ما يقوله علماء النفس الاجتماعي من أن لمشاعر الانتماء والتضامن مسارات متعرجة مرتبكة لا تؤدي لحميد العواقب فحسب، بل ولوخيمها أيضا. أي أن اجتماع البشر (سواء بمعنى الصحبة والعشرة أو بمعنى الأمة والدولة) مادة قابلة للانشطار تطلق سلسلة من التفاعلات التي لا يمكننا التنبؤ بها أو التحكم فيها (..) ذلك أن مجموعة المتطوعين الذين يقضون سبتهم (أي يوما من يومي العطلة الأسبوعية) يعملون في عيادة للتلقيح ضد كوفيد 19 ومجموعة المتطوعين الذين يقضون سبتهم يحتجّون أمام العيادة ضد عمليات التلقيح إنما يركبون جميعهم الموجة ذاتها. أي أن المواقف من كوفيد 19، على اختلاف مواقعها ودرجاتها وألوانها، هي صلة نفسية تصل كلا الفريقين المتعارضين!
أما الشخصيات التي تناولتها هذه الكتابات التلخيصية لعام 2021 فتتراوح صعودا من الروائي العظيم فيليب روث نزولا إلى مغنية البوب بريتني سبيرز (التي تجنّد لها شعب من المعجبين الصاخبين جعلوا من استرجاع نجمتهم أموالها من أبيها قضية مقدسة!).
وبما أن الأمريكيين يتّبعون، بالفطرة والسليقة، الحكمة القائلة بأن الجد المفرط درع الأغبياء، فقد تناولت الكتابات أيضا مسائل مثل: ما الذي يوجد في ساندويتش التن (التونا) الذي يباع في محطات قطارات الأنفاق؟ (وهذا دليل على أن الأمريكيين لم يهتدوا بعد إلى «أن ما بينهما كامخ».
تلك هي نظرة النيويورك تايمز إلى العام الذي سينقضي بعد أيام. أما بالنسبة لنا فلم يأت العام بجديد سوى تأكيد ما كنا قد توقعناه هنا في نهاية 2020 من أن 2021 سيكون مجرد العام الثاني من عامين معلقين بين قوسين: عامين اعتقلتهما دكتاتورية الكوفيد ـ بموجب حالة الطوارئ التي فرضتها على كامل البشرية ـ ثم جففتهما من كل أمان وجوّفتهما نفقا زمنيا موحشا لا يني الظلام يؤبّد فيه سلطانه ويمكّن لمزيد من الظلام. قلنا آنذاك إن 2020 لم يقع، و2021 لن يقع وإن أيّا من هذين العامين المعطّلين «ما ينحسبش» من عمرك أو عمري أو عمر أي من الناجين من الحرب العالمية الثالثة التي شنها الفيروس دون سابق إعلان.
بل إن ما يتملك البشرية حاليا من هلع، بسبب انتشار متحور أوميكرون وسرعة عدواه، إنما يرجّح الاحتمال الذي توقعناه: أن تستمر الأزمة الصحية حولين آخرين فتشمل معظم 2022. ولهذا يظل السيناريو الأفضل والأرجى، أي الأكثر إثارة للتفاؤل، هو أن توزع اللقاحات في جميع البلدان، لا في البلدان الغربية والغنية فقط.
وهذا ما بقي رئيس الحكومة البريطاني السابق غوردون براون يناضل في سبيله بكل تصميم. لكن دون طائل. لهذا قال، قبل يومين، إن عدم تعميم اللقاحات على البلدان الفقيرة وصمة تلطخ روح الإنسانية.
أما الحقائق الجديرة بأن تحفظها الذاكرة من هذا العام الموشك على الوداع فإننا نسجل منها هنا حقيقة واحدة. حقيقة إنسانية بسيطة هي تلك التي صدع بها مدير برنامج الأمم المتحدة العالمي للغذاء ديفيد بيزلي عندما أعلن أن حفنة من أثرى الأثرياء قادرة على المساهمة في حل مشكلة الجوع وسوء التغذية في العالم بمجرد التبرع بنسبة ضئيلة جدا من ثرواتهم الطائلة.
إذ إن ستة مليارات دولار فقط كافية لإنقاذ 42 مليون إنسان (نصفهم من الأفغان) سيموتون جوعا إذا لم تصل إليهم المساعدات الغذائية الضرورية. وقد خص مدير برنامج الغذاء العالمي بالذكر كلا من إيلون ماسك وجيف بيزوس، حيث لا يمثل هذا المبلغ، مثلا، إلا حوالي 2٪ من ثروة إيلون ماسك التي تقدر بـ289 مليار دولار.
وليس مبلغ الستة مليارات شيئا مذكورا إذا قورن بإجمالي ثروة كبار الأثرياء الأمريكيين التي تضاعفت على مدى العامين الماضيين لتصل إلى أكثر من خمسة تريليونات (ألف مليار) دولار.
أي نعم، لقد كان من النتائج العجيبة للكوفيد أن قيمة كبريات الثروات هي اليوم ضعف قيمتها عند بدء الأزمة! أي أن الجائحة التي هي نقمة على البشرية إنما هي نعمة لأثرى أثريائها. لذا ترى أن منهم من انفصل عن كوكبنا فليس ينشط إلا لغزو الفضاء.
(صحيفة القدس العربي اللندنية)