انشغلت الأوساط الإسرائيلية خلال
الأسابيع الأخيرة بسلسلة العمليات الفردية التي تمّ تنفيذها في الضفة الغربية،
والتي تُوّجت قبل أيام بعملية إطلاق النار عند مستوطنة "حومش" (قتل فيها
مستوطن وأصيب اثنان آخران)، ونفّذتها خلية أعلن الاحتلال اعتقال منفذيها في قرية "سيلة
الحارثية" بعد 3 أيام من المطاردة.
العملية المذكورة كانت أكثر أهمية، حيث
وصفها الناطق باسم جيش الاحتلال بأنها "مختلفة كليا" عن السلسلة
الأخيرة، إذ استُخدم فيها سلاح وتمّ تنفيذها بكمين.
منذ مجيء السلطة الحالية بقيادة محمود
عباس؛ بوضوح موقفها الرافض للمقاومة، والمصرّ على التنسيق الأمني، لم تتوقف
محاولات المقاومة لكسر الحاجز، وإيجاد سبل لجعل الاحتلال مكلّفا، لكن ذلك كان
يصطدم بعقبة القدرات الأمنية الصهيونية المتطورة، بجانب التنسيق الأمني
"المخلص"، وعدم وجود أي ملاذ آمن للمقاومين (مع مساعي ضرب الحاضنة
الشعبية للمقاومة عبر إعادة تشكيل الوعي وإشغال الناس بالمال والأعمال)، فضلا عن
تعاون حركة فتح مع مسار رئيسها، وقبل ذلك وبعده عمليات السحق التي تعرضت لها
"حماس" بعد الحسم العسكري في قطاع غزة منتصف عام 2007، ثم تواصل
الاستهداف دون توقف.
لم تتوقف محاولات المقاومة لكسر الحاجز، وإيجاد سبل لجعل الاحتلال مكلّفا، لكن ذلك كان يصطدم بعقبة القدرات الأمنية الصهيونية المتطورة
نفتح قوسا كي نشير إلى أن حديث عباس
ومن حوله عن "المقاومة الشعبية" هو محض هراء، لأنها تعني عندهم مناسبات
موسمية، وليست شاملة تشتبك مع حواجز الاحتلال وتمنعه من اجتياح المدن والقوى،
وتجعل وجوده مكلّفا، وقد تصل إلى العصيان المدني.
قبل العمليات الأخيرة بشهور، فُتح باب
كبير للأمل من خلال "انتفاضة القدس" ومعها "سيف القدس"، وهي
الانتفاضة التي حملت ملمحا بالغ الأهمية لم تعرفه الهبّات السابقة، ممثلا في
اندماج الكل الفلسطيني، بما في ذلك الأراضي المحتلة عام 48 فيها.
لكن المسار العام ما لبث أن عاد إلى
سيرته الأولى، بخاصة بعد أن انتهت زفّة "صفقة القرن"، وجاء بايدن
ببرنامج جديد، عنوانه تجميد القضية من دون الحديث عن حلّ سياسي، وفتح أبواب
التطبيع العربي على مصاريعها، إلى جانب مساعدة السلطة من الناحية الاقتصادية كي
تواصل أداء مهمتها الكبرى، ممثلة في منع اندلاع انتفاضة جديدة ستكون كفيلة بضرب
مشروع التطبيع، وتبعا له مشروع التصفية الناعمة للقضية الفلسطينية.
ورغم أهمية السلسلة الأخيرة من
العمليات، إلا أن الحاجة ماسّة لتطويرها كي تكون قادرة على فتح الباب أمام اندلاع
انتفاضة شاملة في كل الساحة الفلسطينية، لا سيما أن محاولات العمل المسلح المنظم،
ما زالت تتعرّض للإحباط بسبب العناصر السابق ذكرها، وربما بسبب فشل من يديرونها في
فتح مسارات أخرى غير قابلة للاختراق والإحباط (الإبقاء على الفاشلين في مواقعهم؛
خطيئة كبيرة بطبيعة الحال)، وإن كان جزء من ذلك مفهوما في ظل انكشاف المجتمع
الفلسطيني، وبقاء "فتح" في المربع المناهض لتلك العمليات، وإن رحّبت
ببعضها عبر البيانات أحيانا، أو احتفل بها بعض عناصر الحركة على هذا النحو أو ذاك.
واللافت فيما يجري في الساحة
الفلسطينية أن مشروع عباس الذي كان ينبغي أن لا يُمنح أكثر من 3 سنوات لاختبار
نجاحه، قد حصل على 17 عاما حتى الآن، فيما يمضي من فشل إلى فشل، بل إن الخطاب الذي
تم تبرير "أوسلو" من خلاله، بالحديث عن الحفاظ على ما تبقى من الأرض، ما
لبث أن تعرّى تماما أمام مسلسل الاستيطان والتهويد الزاحف.
مشروع عباس الذي كان ينبغي أن لا يُمنح أكثر من 3 سنوات لاختبار نجاحه، قد حصل على 17 عاما حتى الآن
والسؤال الذي يطرحه المخلصون في الساحة
الفلسطينية، وربما العربية المعنية بالقضية المركزية للأمة، يتمثل في الكيفية التي
يمكن بها الخروج من هذا المأزق، والتمرد على خيارات محمود عباس، ما دام ذلك لن
يحدث من خلال حركة "فتح" التي يسيطر عليها الرجل سيطرة كاملة لا تسمح
لأي صوت معارض بالظهور، وبالطبع بسطوة المال، وبسطوة المحتلين في آن.
لا حل لهذا المأزق بجانب إبعاد
الفاشلين عن إدارته، سوى تشجيع المبادرات الفردية على نحو يجعلها ظاهرة تتصاعد
لتشمل كل الأرض الفلسطينية، بما في ذلك الأراضي المحتلة عام 48، والتي يتوفّر فيها
السلاح بكميات كبيرة، ويُستخدم مع شديد الأسف في النزاعات الفردية والعشائرية، وهي
الظاهرة التي انتقلت إلى الضفة الغربية، وباتت تشكل عنصر قلق للمخلصين، وإلا فهل
يعقل أن يستخدم الشهيد فادي أبو شخيدم "كارلو" بسيط في عمليته البطولية،
ويذهب آخرون إلى استخدام سكاكين، أو عمليات دهس، بينما يلعلع الرصاص من بنادق
حديثة في الأعراس والمشاجرات العائلية؟!
أمام هذه الحالة المعقّدة، يبدو أن على
قوى المقاومة، بخاصة "حماس" والجهاد" وكذا "الشعبية" أن
تناشد جميع الشبان الفلسطينيين أن يجدوا سبيلا لمقاومة الاحتلال بالوسائل التي
يرونها مناسبة، مع التأكيد على أن من يُستشهد منهم سيكون جزءا من شهداء فصائل
المقاومة (بتنسيق فيما بينها)، مع حثّ عناصر تلك الفصائل أنفسهم على فعل ذلك بما
تيسر من أدوات، وعدم انتظار تشكيل الخلايا التي ما يلبث أكثرها أن يُكشف.
حين تتحول هذه العمليات إلى ظاهرة شبه
يومية، سينخرط فيها المزيد والمزيد من الشبان إلى أن تتحول الساحة إلى انتفاضة
شاملة تضطر حركة فتح إلى دعمها ومساندتها والتخلي عن مسار عباس، وقد يفرض ذلك على
الأخير ترك الأمر، وإكمال رحلته العمرية بعيدا عن فرض خياراته البائسة على الشعب
الفلسطيني.