هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تمكن النظام العربي – كطريقة عمل- كله تقريباً من النجاة من “الربيع العربي”. ولم يعنِ تغير الأفراد والنخب في قمة السلطة هنا وهناك إلى تغيير في الجوهر. ما تزال سمة النظام في المنطقة هي الأوتقراطية. وأينما تعمل أشياء تشبه الديمقراطية، مثل “التعددية” و”الانتخابات”، فإن استمرار احتكار السلطة لنفس التكوينات هو النتيجة الجامعة. وفي كل “الجمهوريات” القديمة والجديدة، تسمح الدساتير المعدلة بفترات لا نهائية من الحكم.
بعد تجربة “الربيع العربي” والفشل الظاهر للحركات الشعبية – غالباً لأنها أرادت التغيير بشدة، لكنها لم تعرف ما الذي ستغيّر إليه- تشكل اعتقاد لدى الحكومات العربية بحلول لحظة ما يسميه الكاتب جون أولترمان Jon B. Alterman، “نهاية التاريخ في الشرق الأوسط”. ويذكرنا أولترمان بكيف رأى فرانسيس فوكوياما في انهيار الشيوعية “استنفاداً كاملاً للبدائل المنهجية القابلة للتطبيق لليبرالية الغربية.. ونقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية وتعميم الديمقراطية الليبرالية الغربية على أنها الشكل النهائي للحكومة البشرية”.
الآن، حسب أولترمان، “تعتقد العديد من الحكومات العربية الحالية بأنها وصلت إلى نقطة وضوح مماثلة، لكنها استقرت في مكان مختلف. فبينما ما تزال تترنح من آثار الربيع العربي، تتقارب (هذه الحكومات) على نموذج يجمع بين الاستبداد، وشبكة أمان اجتماعي، وقيود صارمة على التعبير الديني، ومساحة اجتماعية أكثر تحرراً، وقطاع خاص نشط”. ويرى أولترمان أنه مع أن معالم هذا النموذج من “نهاية التاريخ” العربية أكثر وضوحاً في بعض المناطق، فإنه يشمل كل المنطقة العربية.
ربما لا يكون أولترمان دقيقاً في تعميم النموذج بهذا الوصف. قد يكون المشترك في تعريفه هو الاستبداد، في حين أن عناصر شبكة الأمان الاجتماعي والمساحة الاجتماعية الأكثر تحرراً والقطاع الخاص النشط ليست موجودة في كل مكان عربي. وحتى “المساحة الاجتماعية الأكثر تحرراً” يفهمها بمعنى تحييد القوى المحافظة والسماح ببعض الانفتاح الاجتماعي والترفيه، بينما تظل المساحة الاجتماعية محرومة من حرية التعبير والمشاركة السياسية. وحتى القوى المحافظة التي تعبر عنها القوى الدينية، والتي قوضت التعددية وفرضت رؤيتها على الأجيال الجديدة وأفضى عملها إلى العنف والاضطراب، كما يرى أولترمان، ما تزال تعمل اجتماعياً – وإن ليس سياسياً- من خلال الرقابة الاجتماعية المشبعة بالفكر المحافظ والتي تستهدف أصحاب الرأي المختلف بالهجوم.
قد يرى البعض في النموذج الجديد لعمل الأنظمة، وعلى رأسه تحييد القوى المحافظة و”الانفتاح الاجتماعي”، تغييراً محموداً. لكن آخرين يرون ذلك على أنه تحركات “تسعى فقط إلى استبدال الأشكال القديمة من الاستبداد بأشكال أكثر حداثة”، كما يقترح أولترمان. ففي نهاية المطاف “لم تذهب المشاكل الأساسية الكامنة إلى أي مكان، ولم يذهب المحافظون إلى أي مكان، وما تزال أفكار المحافظين تجد قبولاً. وتواصل الحكومات حرمان الناس من الوكالة على حيواتهم الخاصة. ويواصل القادة احتكار مسؤولية مراقبة أنفسهم والتحقق من تجاوزاتهم بأنفسهم. وبدلاً من تعزيز المرونة، تسعى هذه الأنظمة الأكثر حداثة إلى الحفاظ على الآليات ذاتها التي أثبتت أنها كارثية للغاية في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الشرق الأوسط”.
في الواقع، يرى الكثير من العرب أن أحوالهم قبل “الربيع العربي” كانت أفضل منها بعده. فمن ناحية، أدى فشل محاولات الشعوب نيل حريتها إلى الإحباط من النتيجة: عودة الاستبداد في شكل محدّث أو كوارث الحروب الأهلية. ومن ناحية أخرى، كسبت الأنظمة التي لم تتغير جوهرياً –حتى مع التغيير الشكلي في بعض الأماكن- استمرارية جديدة من خلال الاستشهاد بالضرر الذي خلفته الثورات في بلدان الحروب الأهلية والاضطرابات. وأصبح بالوسع وصف عمل المعارضة والاحتجاجات والنشطاء بسهوله بأنه تهديد للـ”استقرار” وتهديد للسلم الأهلي أو الأمن القومي.
بطريقة ما، أصبح “الانفتاح” الظاهري و”المساحة الاجتماعية الأوسع” – الحقيقية والافتراضية- وسيلة لمراقبة الجميع وضبطهم. وأصبحت مظاهر الحداثة، مثل وسائل التواصل الاجتماعي، وبرمجيات التجسس الإلكتروني، وشبكة الإنترنت، مصادر لجمع المعلومات وتحليل الاتجاهات الفردية والجماعية.
وفي الحقيقة، أصبح من الأسهل استهداف النشطاء على أساس مشاركاتهم المفتوحة أو قرصنة هواتفهم وحواسيبهم وانتهاك خصوصياتهم. وباختصار، لم تذهب المظالم ولا تحسن الأمن الاقتصادي والاجتماعي للناس أو حرياتهم ولا طريقة حكمهم بطريقة يعتد بها. ولم يستقر التاريخ على نهاية مثالية في الشرق الأوسط. لقد أصبحت الأوتقراطية نفسها أكثر حداثة فحسب.