مقالات مختارة

الجماهير والميدان المفقود والسحر الأسود

وسام سعادة
1300x600
1300x600

يحدث في لبنان اليوم ما خبرته مجتمعات أخرى؛ وهو أن خروج الجماهير على حين غرّة، إلى الطرقات والساحات، وبعد فترة لم تكن موسومة بتأجج احتجاجي، يبدو كالسحر الجماعي السري الذي يخرق معهود الزمان ويقلبه رأسا على عقب.
حتى إذا بهت البريق، واحتجبت الجموع، بدا شحوبها واحتجابها كمن تستأثر به طلاسم السحر الأسود وتمسك به وتقعده عن كل سعي وحركة.
مضت على هذه الحال «الانكماشية» في لبنان اليوم شهورٌ طويلة، مع ذلك لا تكاد تنقطع الدعوات إلى استئناف الانتفاضة الشعبية، المتألقة في خريف العام 2019 والمنحسرة بانتهائه، ثم المتقطعة في وثبات ومحطات متفرّقة في العام 2020.
فهذا، يُمنّي النَّفْسَ عند كل دَرَك إضافيّ ينحدر إليه الوضع العام كما الوضع الاقتصادي – المالي – المعيشي، بأنّ الناس بصدد التأهّب من جديد.
وذاك، يضرب لهبوب الريح الجماهيرية العاتية موعدا مؤجلا إلى ما بعد عتبة جديدة من استفحال «الانهيار». ليس هذه المرة يقول لنفسه، بل بعد محطتين، لنصبر إذا، وننتظر!
وهنا ناشطٌ يناجي الجموع بأن تنزل للميادين، بالله عليها، يكفيها عام كامل في المحجر الكوروني، تأخرت، والظلم والانهيار لا ينتظران.
يتعشم ويترجى ويحث ويتفاءل. كحبيب أقنع نفسه منذ اللحظة الأولى أنّه يفيض ولهًا بالمحبوب أكثر بكثير مما يكنّه له هذا المحبوب، فسعد بذلك هنيهة وشقي هنيهات، بعد أن تبيّن له أنّها تجارة خاسرة.
ولا يكاد الراجي المتعشّم في الهبّة الشعبية الميمونة العتيدة، يلمح شاهدا على تحقق الحلم حتى يبعثره باستجدائه، فيتطاير الشاهد كلون من ألوان السراب.
أما صاحبه، فيقرّر أن يحزم أمره، بدل الترجي يؤثر العتاب. وبعد المعاتبة الملامة، فالنهر، فالتقريع. الناس مستسلمة يقول لنفسه، بل متواطئة مع الظالمين لها، يقول لها.
يبدو «تذنيب» الناس حيلة «نفسية» يائسة لأجل الضغط عليها كي تنفجر انتفاضيا من جديد، عند البعض، أو هو عند البعض الآخر حجة لإلقاء الحجة على الجميع، من هم تحت ومن هم فوق، والانصراف.


أيضا، وعلى النحو نفسه الذي تمادت فيه المبالغة في خريف 2019، بتقدير أنّ الجماهير «خلعت عباءاتها» الطائفية والمناطقية، يحدث الآن أننا ننكب بالمقلب الآخر من المنطق المختل نفسه.
فيجري تفسير إحجام الجماهير عن الشارع من بعد التوطّن فيه، بأنّه نتيجة لتوبتها مجددا إلى ولاءاتها وزعاماتها، أو أقلّه نتيجة ليأسها من إمكانية تخطي هذه الولاءات والزعامات.
وما يغيب عن البال هنا أنّها مسألة كونية، وكونيتها سابقة على الإطار الخاص لتبدّيها لبنانيّا.

فمسألة الجماهير التي يباغتك نزولها على حين غرّة، قبل أن ينحسر المدّ الشعبي، ولا يعود ينفع معه لا استنهاض ولا حثّ ولا حضّ، هي مسألة تتنقل من بلد إلى آخر، لا سيما في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وكبوة نموذج الحزب المركزي الطليعي الذي كان ينظر إليه من قبل على أنه يلاقي الهبة الشعبية ويقودها إلى التجذّر والتوسّع في التجربة المعينة الفلانية، أو يختطفها ويطعنها ويسير بها نحو التهلكة في تجربة مغايرة.
بيد أن ثنائية «الطلائع والجماهير» تلاشت في عدد كبير من المجتمعات، ولو أنها تجددت بأشكال متفاوتة في مجتمعات أخرى.
وحيثما تلاشت الطليعة حلّ مزيج تكدّري: «ناشط» النخبة، الذي يعامل نفسه على أنّه يضحّي من أجل تجهيز «الشعب». والناشط «الأنتي نخبوي» الذي يعامل نفسه على أنّه نتفة من هذا الشعب، ويخلص إلى أنه ضمير حي ناطق لهذا الشعب، وأنه صنو «غافروش» في «بؤساء» فيكتور هوغو.
والشعب عند الناشط النخبوي مفهوم أكزوتيكي (غرائبي). أما الناشط «الغافروشي» فإنه يتعامل مع نفسه هو، على أنه كائن يشعّ بالإكزوتيكية. كائن فولكلوري متأبط شرّا من أي شبهة فولكلور يبادر إليها الناشط النخبوي!
لا يجدي الحنين في المقابل إلى مفهوم «الطليعة» والتعلّق بأهدابه. لكن هذا المفهوم كان بإمكانه على الأقل أن يخوض بشكل جدي أكثر في مسألة نزول الناس على حين غرّة، ثم عدولها عن النزول رغم حرقة الانتظار لها ولصنيعها.
ذلك انطلاقاًمن طرفي الثنائية: العفوية أو التلقائية، من ناحية، والانتظار والتمرّس في العمل الحزبي والنقابي والمدني الدؤوب، من ناحية ثانية.
فالغرض من التنظيم ليس تنظيم موجة جماهيرية حاصلة، ولا إعداد العدة من أجل موجة جماهيرية تالية، وإنما القدرة على عمل شيء يُحدث تراكما ما بين موجتين.
الغرض الأول من التنظيم الحزبي الطليعي هو التصرّف والتدبير في الحالة التي تكون القومة الجماهيرية فيها ممتنعة أو مؤجلة، لكيت وكيت من الأسباب والظروف. بالتالي، من دون رهن الذات الكفاحية بموجة هبّ جماهيرية قد تأتي غدا أو تتأخر لسنوات مريرة وطويلة. ليس هناك تعبئة جماهيرية مستدامة، ومن الوهم بمكان أن الموجة الجماهيرية «المقبلة» ستجيء مستدامة. هي أيضا، حين تهب، اذا هبت، ستنمّي الوهم بأنها لن تتركنا، ثم تباشر في الانحسار، ويتعامل معها كثيرون ممن خاضوا غمارها كما لو كانت طيشا أو إثما أو مسلكا بلا معنى.
ومتى نُكِب مفهوم الطليعة أساسا؟ حين تحول من مفهوم نقيض للوهم، الوهم بأن هناك وثبة جماهيرية مستدامة، إلى الوقوع في براثن الوهم نفسه، بحجة أن هذه الطليعة المجرّبة قد أفعمت بالطاقات الثورية والخبرات، وصهرتها وحدة الحال مع الطبقة الثورية المشتهاة، إلى الدرجة التي يصبح فيها «تحريك الشارع» فنّا صناعيّا تتقنه، تستخدمه متى أرادت، وتحفظه في الأمانات، حين لا تكون لها مصلحة في ذلك.
هذه المزايا السوبرمانية الوهمية أصابت مفهوم الطليعة في مقتل، إلا أن هذا المفهوم لم يكن كذلك على الدوام، ولو أن قابليته للانتفاخ على هذا الشكل المدمّر كانت متوفرة منذ البدء.
لم يتمكن هذا المفهوم من التحكم، بشكل مرن، بـ«مضخات الوعي»، لكنه كان قادرا على رفض تقديس «عفوية الجماهير»، وقبل كل شيء اجتناب التعاطي معها على أنها سحر أبيض حين تنزل إلى الشارع، وسحر أسود حين تقعد في البيوت. سحر أبيض يراد عبثا الانتظام لأجله لتعبئته في الخوابي حين تظهر الناس في الميادين، وسحر أسود يراد عبثا أيضا فك طلسمه، لكسب الانفراج من بعد الشدّة، حين تختفي الناس في نفسها.

 

(القدس العربي)

 
0
التعليقات (0)