ملفات وتقارير

تحليل: هكذا صنع دعم المقاومة للقدس لحظة فلسطينية فارقة

 المشروع الوحيد الذي يمكن أن يوحّد كافة أبناء الشعب الفلسطيني هو مشروع "الاشتباك" مع الاحتلال- جيتي
المشروع الوحيد الذي يمكن أن يوحّد كافة أبناء الشعب الفلسطيني هو مشروع "الاشتباك" مع الاحتلال- جيتي

أدى الرد الذي نفذته المقاومة الفلسطينية في غزة، أمس، ضد جرائم الاحتلال في القدس إلى ولادة لحظة فارقة في تاريخ الشعب الفلسطيني، لأول مرة منذ عقدين من الزمن على الأقل.


تحولت فلسطين كلها في هذه اللحظة، من البحر إلى النهر، حقيقة وواقعا إلى وحدة واحدة، يجمع بينها المشروع الوحيد الذي يمكن أن يوحّد كافة أبناء الشعب الفلسطيني وهو مشروع "الاشتباك" مع الاحتلال.

منذ الاحتلال الأول لأرض فلسطين عام 1948، بدأ الاحتلال باستراتيجية تقسيم الشعب الفلسطيني، جغرافيا وسياسيا واقتصاديا، والأهم والأخطر من ذلك، أنه عمل على تقسيمه نضاليا.

 

حققت هذه الاستراتيجية نجاحات كبيرة في بدايات الاحتلال، ولكن تشكيل الهوية الفلسطينية بمعناها الحديث بفعل كفاح "منظمة التحرير الفلسطينية" بنسختها الأولى في أول عشر سنوات من تأسيسها، حال دون تحقيق نجاح ناجز لهذه الاستراتيجية الاحتلالية.

نتج عن توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 توجيه ضربة قاضية إلى وحدة الشعب الفلسطيني، وتم تفريغ منظمة التحرير شيئا فشيئا من مضمونها، وتقزمت المنظمة لتصبح مجرد سلطة حكم ذاتي في الضفة الغربية وغزة، غير معنية بملايين الفلسطينيين في الشتات، وتخلت عن فلسطينيي الداخل المحتل عام 1948، حتى إن أحد سياسيي الداخل قال إن عرفات "ترك فلسطينيي 48 كالأيتام" بتوقيعه على أوسلو.

انسحبت قوات الاحتلال من قطاع غزة عام 2004 وأمسكت بمفاتيحه عبر تحكمها بالمعابر والجو والبحر، وأبقت سيطرتها الفعلية على أراضي الضفة، ولم تعد تعترف عمليا بتقسيمات أوسلو للمناطق أ/ ب/ ج، وأدى ذلك الوضع إلى تقسيم جديد للشعب الفلسطيني في الضفة وغزة، ثم تعمق هذا التقسيم بفعل الحصار الظالم على القطاع بعد فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية عام 2006.

أصبح الشعب الفلسطيني بعد عام 2006 تحديدا مقسما إلى خمسة أجزاء: غزة، الضفة، القدس، الأراضي المحتلة عام 1948، والشتات.

 

وصار كل جزء له واقعه المختلف عن الجزء الآخر، وتطلعاته المختلفة، وإشكالياته المختلفة، وبالتالي صار لكل جزء منه خيارات نضالية وسياسية مختلفة انطلاقا من اختلاف واقعه.

 

اقرأ أيضا: فلسطين تنتفض في القدس والضفة والـ48 وغزة تطلق الصواريخ

 

حقق هذا الوضع الهدف "الإسرائيلي" بشكل لم يسبق له مثيل، فقد تمكن الاحتلال والحال هذه من التفرد بكل جزء من الشعب الفلسطيني في داخل الوطن، مع ضمان أن تمتنع الأجزاء الأخرى عن المشاركة في الدفاع عن الجزء الذي يتعرض لاعتداء من قبل الاحتلال.

جعل الاحتلال مشاركة أي جزء من الشعب الفلسطيني مع نضال جزء آخر منه مكلفة جدا: فغزة تتعرض للعدوان الجوي إذا دافعت عن القدس، والضفة تنتهك وتستباح ويعتقل أبناؤها إذا حاولت المشاركة في النضال لرفع الضغط عن غزة، والأحكام العالية بالسجن والملاحقة اليومية هي ثمن مشاركة أبناء الداخل المحتل عام 48 أو القدس في الدفاع عن إخوانهم في غزة والضفة.

استطاع هذا التقسيم أن يحقق احتلالا مجانيا "لإسرائيل"، لدرجة أنها استمرت في قصف غزة في عدة حروب لأسابيع دون أن تواجه بردود نضالية من بقية أجزاء الشعب الفلسطيني، إلا في الحدود الدنيا، وصارت رام الله تتفاعل مع المجازر "الإسرائيلية" في غزة بمسيرات شموع، وكأنها جنيف أو لندن! فيما اكتفت مدن الداخل والقدس بردود فعل ثانوية لا ترقى لحجم المجازر التي تعرضت لها غزة.

أمعن الاحتلال في فرض هذه المعادلة على قطاع غزة في كل الحروب العدوانية التي شنها على القطاع، حيث اضطرت قوى المقاومة في كل اتفاقيات التهدئة التي تبعت هذه الحروب إلى الامتناع عن ربط التهدئة في غزة بوقف الاعتداءات في الضفة والقدس على الأقل، وذلك بسبب الثمن الهائل الذي دفعته غزة في تلك الحروب العدوانية.

 

اقرأ أيضا: الضفة تنتفض نصرة للأقصى وغزة.. واشتباكات بعدة مدن (شاهد)


إن رد مقاومة غزة أمس على جرائم الاحتلال في القدس يمثل أهمية استراتيجية كبيرة، وليس فقط عاطفية -على أهمية البعد العاطفي في الربط بين أبناء الشعب الواحد وقضيتهم وآلامهم وأحلامهم.

 

أكد هذا الرد سقوط التقسيم الذي صنعه الاحتلال بين أجزاء الشعب الفلسطيني المختلفة، ووحّد المعركة بين جميع أبناء الشعب وبين الاحتلال، برغم اختلاف ظروف كل جزء من أجزاء هذا الشعب.

لأول مرة، منذ أكثر من 20 سنة، تتوحد مدن فلسطين كلها، من بحرها إلى نهرها، في حالة اشتباك مع الاحتلال.

 

فبينما تقصف غزة مستوطنات الاحتلال، يعتصم أهالي القدس في المسجد الأقصى والشيخ جراح في مقاومة شعبية ملهمة، ويدخل فلسطينيو الداخل المحتل منذ عام 1948 على خط المظاهرات والمقاومة الشعبية غير المسبوقة منذ عقدين، وينتفض أبناء الضفة في مظاهرات شعبية، ليشكل أبناء الشعب الفلسطيني "سيمفونية" نضالية على نغمة واحدة، وهو حلم كنا نظن بالأمس أنه صار بعيد المنال!

لا يمكن لأي مقاومة شعبية أو حركة تحرر أن تعمل بدون حسابات سياسية وإلا كانت حركة انتحارية، ولا يمكن لها إلا أن تأخذ بعين الاعتبار الخسائر البشرية المؤلمة، ولكن لا يمكن لحركة تحرر أن لا تضع خطوطا حُمرا للعدو، وكيف لحركة فلسطينية أيا كانت أن لا تكون عاصمة دولتها المنشودة وأقدس بقاعها خطا أحمر؟

سيكون لهذا الرد ثمن مؤلم بكل أسف، ولكن هذا الثمن يقابله مكسب استراتيجي على المدى البعيد، لأن الطرف الذي سيدفع ثمن الرد اليوم -وهو غزة- سيجد من يدافع عنه ويدفع جزءا من الثمن عندما يتعرض هو للعدوان، وهو ما سيجعل الاحتلال يجري حسابات أكبر عند التفكير بتنفيذ اعتداءات على هذا الجزء من الشعب الفلسطيني أو ذاك.

 

لن تحقق هذه الاستراتيجية تحرير فلسطين، ولا يزعم أحد من مؤيدي رد المقاومة ذلك، ولكنها قد تساهم في وضع قواعد اشتباك جديدة مع الاحتلال.

تستطيع المقاومة التقليل من تكلفة هذا الخيار الاستراتيجي بالعمل في مسار سياسي يستند إلى المقاومة، ولعل الوقت الآن هو الأنسب لطرح مبادرة تجنب المدنيين ويلات الصراع قدر الإمكان.

 

تطورت قدرة المقاومة على ضرب أهداف الاحتلال، ونعني هنا تطورا نسبيا ولا نبيع أنفسنا أوهاما، ولكن هذا التطور القليل وبرغم الاختلال الرهيب في موازين القوى قد يؤهل المقاومة لطرح مبادرة من أعلى مستوياتها السياسية لتحييد المدنيين، فتحقق بذلك مكسبا إعلاميا دوليا، وفي نفس الوقت تمارس دورها في محاولة حماية أبناء شعبها من ويلات الصراع قدر الإمكان.


باختصار، هذه معركة فرضت على الفلسطيني ولم يخترها هو تطوعا، والمسؤول عن كل ما يدفعه الفلسطينيون من ثمن هو الاحتلال وليس من يقاومه.


هذا هو قدر الشعوب التي تقع تحت الاحتلال، وهذا هو موقعها الصحيح، وليس موقعها في سلطة بائسة تقدم خدمات أمنية وبيروقراطية للاحتلال!

التعليقات (0)