هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
السلطوية عكس الديمقراطية،
فإن قالت الديمقراطية بحكم الشعب ودوره في تقرير مصيره عبر ممثليه، فالسلطوية تؤمن
بعدم مقدرة الشعب على تقرير مصيره، فالشعب في الفهم السلطوي عاجز عن المشاركة
والاختيار، وأن الحل لمسألة الحكم والسلطة في الدولة، وفق التصور التسلطي، هو
الحكم الفردي القائم على الفرد الحاكم.
إن التداخل كبير بين التسلطية وبين ما يقال في
وسائل الإعلام، فالتسلطية لا تستطيع إلا أن تسيطر على الإعلام بكل أنماطه، وذلك
لتعميق أفكار محددة في صفوف العامة كالشعور بالعجز والخوف والاتكالية. وإن لم
تستطيع التسلطية السيطرة المطلقة فهي تحاصر الإعلام وجميع محاولاته للتحرر من
القيود من خلال القوانين المانعة والعقوبات المتدفقة.
إن النظام التسلطي في المرحلة الأولى من عمره
وتطبيقاته يقدم وعودا كثيرة لضمان قبول الناس، لكن مع مرور الوقت والزمن تنكشف
الحقائق مما يجعل الجيش والأمن والأجهزة القمعية تزداد شراسة وتجاوزا للحقوق، بل
يتطلب الأمر رفع درجة السيطرة على مؤسسات التعليم والتربية، بل تصبح القصة
والرواية والشعر والكتب بحد ذاتها خطرا أمنيا. مع الوقت يصبح كل شيء أمني، ولكل
شيء خطوط حمر تزداد كل يوم احمرارا، وتضاف إليها كل ساعة خطوط جديدة تدور في
معظمها حول مزيد من السيطرة على كل مساحة مهما صغرت. إن المواطن الفاقد للحقوق
والقابل بالحد الأدنى منها هو المواطن النموذجي للحالة التسلطية.
إن منطلق النظام التسلطي هو: المنع أولا، ثم
الرفض ثانيا، والقمع لكل مظهر من مظاهر النقد والرفض. بل نجد أن كل منع يجر لمنع
جديد. والملاحظ أن التسلطية تنغمس في غض النظر عن الفساد، فأمام تردي النظام
الاقتصادي والخوف من نشوء طبقة وسطى فاعلة ومستقلة يصبح الاعتماد على حفنة من
الأفراد الموالين هو الحل الأمثل لإدامة التسلطية. إن مقدرة التسلطية على إيقاف
فساد الأقلية غير ممكنة لأن ذلك الفساد جزء من طبيعة النظام وطبيعة التحالفات التي
ينشئها.
وبينما تتطور المجتمعات يصبح الأسلوب القمعي
مجال للرفض لأنه لا يقوم على السياسة والقانون العقلاني والحقوق الطبيعية للناس. إن
قوانين وإجراءات المنع والرقابة والقمع معركة فاشلة وسبب ذلك عدم مقدرة التسلطية
على تلبية مطالب المجتمع التي تزداد كثافة وحدة وعمقا.
ومن هنا سنجد بأن إشكالية النظام العربي هي
الأعمق في الأنظمة السياسية في العالم. فالتحكم والسيطرة أساس النظام العربي وأحد
أسس بقائه، واحتكار السلطة لمصلحة فئة قليلة من الناس هو الأكثر انتشارا في واقعنا
العربي. ولهذا بالتحديد الدولة العربية التسلطية هي دولة أمنية مضطرة لحماية
أسوارها باستخدام العنف والقانون والسجون والقمع والقوانين القاسية بحق من يعبر عن
مروية مغايرة وفكر مختلف أو يطالب بتغيرات جذرية.
ولكن السؤال الأكبر كعرب هل نزداد حصانة من
خلال ثقافة القمع هذه؟ هل نتقدم أم نتأخر؟ هل نحن أفضل حالا من غيرنا؟ وهل النموذج
العربي للتسلطية قدم العرب خطوة نحو الأمام؟. فنحن نسقط في الامتحان تلو الامتحان،
ونواجه مصاعب حقيقية في إدارة دولنا بل وفي الإبقاء على حدودها وحقوقها المائية
واستقلالها السياسي.
إن كل جيل من الأجيال العربية الشابة و
الصاعدة يبدع طرق جديدة للتعامل مع القمع، كما ويزداد غضبا من عجزه وواقعه، وهذا
بحد ذاته يدفع نحو التمرد باتجاهات عديدة. التمرد جزء من الشخصية التي تعاني القمع
الشديد، ومع التمرد قلما تسود العقلانية التي كان قد قضى عليها بالأساس الأسلوب
التسلطي. من جهة أخرى لا يحاول أي من الذين يطالبون بزيادة القمع في المجتمع
التنبه إلى أن التسلط مسـؤول أولا وأخيرا عن زيادة حدة الاحتجاج وعمق وجذرية
المطالب.
إن الخارج لن يتغير، والعالم المفتوح سيبقى
مفتوحا، والإنترنت لن تختفي، والسينما لن تقل جرأتها بل ستزداد، والعقل لن يتوقف،
والسعي للحرية السياسية بصفتها ام الحريات ينتشر في كل مكان، هذا مسار أخذته
البشرية منذ عصر التنوير حتى الآن وهو ما زال يسير بخط تصاعدي. إن الاستثناء العربي
لن يبقى وحده، بل تبدو علامات التغير في كل عنوان وفي كل دولة، هذه العلامات واضحة،
أجاءت من نخب سياسية مؤثرة ضمن النخب الحاكمة أم من بين تيارات سياسية و تجمعات
شبابية.
إن الاستمرار في فرض القهر السياسي ثم الفكري
على المجتمعات العربية ما هو إلا الأساس لدول فاشلة وأنظمة مفككة وبنفس الوقت إنه
مقدمة لحركات احتجاج يصعب إيقافها. بطبيعتها الناس ستتمرد على من يتحدى طبيعتها
المائلة للحرية وقول الكلمة والبحث عن الحكم العادل والمشاركة.
فالناس ستفكر كما تريد،
وتقرأ ما تحب لكنها فوق كل شيء كائنات سياسية تعنيها المشاركة وانتخاب قادتها
التنفيذيين وتخفيف غلواء الدولة عندما تتجاوز الحقوق والأصول. هكذا يحب الأفراد -وخاصة
الشباب- أن يشعروا بأنهم أحرار و أمام خيارات حقيقيه في التعامل مع ما يمس مستقبل
بلادهم وواقعها الأليم.
القدس العربي