ملفات وتقارير

هل تبالغ أمريكا في تقدير تهديد "الصين الشيوعية"؟

"الصين تركز بالدرجة الأولى على استثناء أمريكا، وليس إنهاءها" - جيتي
"الصين تركز بالدرجة الأولى على استثناء أمريكا، وليس إنهاءها" - جيتي

بالتزامن مع تعزيز إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن خطوات الحشد ضد الصين، التي توصف على نطاق واسع بأنها الخصم المحتمل لهيمنة الولايات المتحدة عالميا، أشارت عدة تقارير إلى أن تقدير "التهديد" الذي يمثله العملاق الآسيوي قد يكون "مبالغا فيه"، لأسباب عديدة.

"مبالغة تقليدية"

ونشر موقع "دايفرجنت أوبشنز" البحثي، مؤخرا، ورقة سلطت الضوء على ما قالت إنها مبالغة أمريكية في تقدير قوة الاتحاد السوفييتي، إبان الحرب الباردة، في وقت يدور فيه الحديث عن "نسخة ثانية" لذلك الصراع، ولكن مع الصين هذه المرّة.

وأعد الورقة الرائد "جون بولتون"، وهو أكاديمي وضابط بالجيش الأمريكي، وتولى مناصب عسكرية مختلفة.

ويعتقد "بولتون" أن الولايات المتحدة تميل إلى المبالغة في تقدير التهديدات وتلجأ بسرعة كبيرة إلى تصميم استجابات عسكرية، دون التفكير بمنهجية متكاملة.

واستهل بولتون ورقته، التي ترجمتها "عربي21"، باقتباس عن وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، روبرت غيتس، قال فيه إن الولايات المتحدة لم تنجح بالتنبؤ بطبيعة ومواقع اشتباكاتها العسكرية القادمة، منذ حرب فيتنام (1955- 1975).

سردية الصراع الأيديولوجي

واعتبر بولتون أن واشنطن لطالما فشلت بفصل "الأيديولوجيا" عن تقييم سلوك الدول الأخرى، مشيرا في هذا الإطار إلى أنها قرأت الحرب الباردة، ولا سيما في عقودها الأولى، بأنها صراع بين الشرق، متمثلا بالاتحاد السوفييتي والصين، والغرب.

وافترض الأمريكيون آنذاك أن التوافق الأيديولوجي يمكن أن يترجم بسهولة إلى تنسيق عملياتي، ومن ثم تعظيم خطر التهديد السوفييتي، وإن كانت الولايات المتحدة غير قادرة على فعل ذلك "التنسيق المبني على التوافق الأيديولوجي" داخل معسكرها الغربي.

ونتيجة لهذا التركيز الأيديولوجي، بحسب تعبير بولتون، أنفقت الولايات المتحدة الموارد والطاقة في بناء أسلحة نووية أكثر بكثير من التوازن المطلوب، وتجنبت مد خطوط تواصل مع الصين، فضلا عن دول شرقية أخرى، فقط لكونها "شيوعية"، وذلك لأكثر من 20 عاما، ما أطال أمد الصراع.

 

اقرأ أيضا: صحيفة: رواية 2034.. تنبؤ مرير بوقوع حرب عالمية جديدة

وبحسبه، يتكرر هذا النمط اليوم، حيث يعزو العلماء ومخططو الدفاع بشكل متزايد تصرفات الصين إلى عوامل أيديولوجية، لا جيوسياسية، ما يتسبب بعدوانية كبيرة وميل إلى المبالغة في تقدير حجم التهديد.

ويميز بولتون بين لجوء الدول إلى الأيديولوجيا في صياغة السياسات المحلية، والجيوسياسيا والعمل من أجل المصالح و"توازن القوى" في صياغة السياسات الخارجية.

ورغم أن بعض الدول قد تكون عدوانية أكثر من غيرها بسبب الهيكل الأيديولوجي، أو التوجهات الفردية للقادة، إلا أن العوامل الجيوسياسية هي التي يفترض أن تحكم رسم "سياسة مواجهة".

أدبيات التحريض

وذكر بولتون أمثلة لتأثر العدوانية الأمريكية ضد الاتحاد السوفييتي بكتابات محددة تحرض على "الطبيعة الانعزالية والبارانويا للستالينية السوفييتية".

لكن تلك الأدبيات، ومنها كتاب "لونغ تليغرام" لـ"جورج كينان"، اعتبرت أن طبيعة الاتحاد السوفييتي ستقوده في النهاية إلى الانهيار، وأوصى الولايات المتحدة باحتواء موسكو ضمن دائرة نفوذها في أوروبا الشرقية، وهو الشق الذي لم تلتزم به واشنطن في ظل حالة "ذعر" من خسارة الصراع لصالح المعسكر الشرقي ومبالغة في تقدير قوة الخصم.

ولفت بولتون إلى أن الاستخبارات الأمريكية قدمت على الدوام تقارير تفيد بتفوق الولايات المتحدة "نوعا وكمّا" على الاتحاد السوفييتي، لكن "صقور الدفاع"، كما وصفهم، كانوا يتحدثون دائما عن "فجوة صواريخ" ويحشدون الهلع بشأن التأخر المختلق أمام موسكو.

وبالفعل، وصف "روبرت ماكنمارا"، وزير دفاع الرئيس الأسبق جون كينيدي (1961- 1963)، فيما بعد، "فجوة الصواريخ" تلك بأنها "أسطورة.. [تم إنشاؤها] بواسطة أفراد موجهين عاطفيا، ولكن مع ذلك وطنيون، في البنتاغون".

 

اقرأ أيضا: WP: كيف يمكن أن تنشب حرب بين أمريكا والصين؟

وبحسب بولتون، فإن أحد العوامل الأساسية التي حسمت الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي هو تراجع التشنج الأمريكي تجاه الأيديولوجيا، بما أتاح لها أخيرا التواصل مع بكين ضد موسكو خلال العقدين الأخيرين للحرب الباردة.

ويلاحظ بولتون بأن "التزام الأمريكيين الشديد بالحرية (من وجهة نظرهم) دفعهم إلى إظهار ميل دائم وغريب لتبسيط الدول الأخرى إلى صور أيديولوجية نمطية"، مضيفا أن ذلك ينسحب على النقاش المعاصر بشأن الصين.

تقدير موقف الصين

وأضاف أن النظر إلى "الصين كمنافس هي وظيفة الجغرافيا السياسية، أي العوامل الهيكلية والجغرافية، أكثر من الأيديولوجية"، لا يستبعد هذا الاستنتاج أهمية أيديولوجية الحزب الشيوعي الصيني، ولكنه يوفر السياق الأساسي للتحليل وتقدير القوة والتهديد.

وفي حين أن الرئيس شي جين بينغ وحزبه الشيوعي قد تبنيا "حلم الصين"، واعتنقا "شكلا عدوانيا"، بحسب بولتون، إلا أن ذلك لم يترجم بالضرورة في تصرفات الصين الدولية، والتي يمكن تفسيرها بشكل أفضل بكثير من خلال تحليل ميزان القوى.

وأضاف بولتون: "كدولة متنامية في بيئة تنافسية، فإن تصرفات الصين منطقية لأنها تسعى إلى استعراض قوتها وإقامة تفوقها الإقليمي".

وتابع: "إن تاريخ الصين في التدخل الأجنبي والمعاناة خلال (ما يطلق عليه) قرن الذل، يصبغ بالطبع مناوراتها المعاصرة، لكنها لا تختلف جوهريا عما نتوقع أن تفعله أي قوة صاعدة".

ويخلص إلى أن من الجدير أيضا أن يؤخذ في الاعتبار أن استخدام الرئيس "شي" للقومية يركز بشكل كبير على الجماهير المحلية كوسيلة لتعزيز قوة الحزب الشيوعي الصيني.

واستدرك بالقول: "لا شيء في الفقرة السابقة يقلل من التحدي الحقيقي الذي تمثله الصين للولايات المتحدة والدول الأصغر في جنوب شرق آسيا، وهي دول حليفة لأمريكا".

 

اقرأ أيضا: الصين تفوقت على أمريكا بالفعل بهذه المجالات.. تعرف إليها

ومع ذلك، فإن تطوير بكين لمجال نفوذها، المبني إلى حد كبير على اتفاقيات التجارة الثنائية، لا يعني بالضرورة مواجهة الولايات المتحدة.

وباختصار، وفق الكاتب، فإن الصين ليست دولة شيوعية تركز على الهيمنة على العالم، وفي الواقع فإن نزعتها القومية المعادية للآخر في الآونة الأخيرة تضر بقدرتها على تنفيذ أهدافها.

ويختم بولتون بالتشديد على أن الصين تركز بالدرجة الأولى على استثناء أمريكا، وليس إنهاءها.

الصين ليست الاتحاد السوفييتي

وعلى النقيض من رؤية "بولتون"، فإن هنالك تقارير تشير إلى فروق عميقة بين الصين والاتحاد السوفييتي، تجعل من التهديد المحتمل للأولى أكثر خطرا.

ولفتت شبكة "بي بي سي" البريطانية، في تقرير نشرته "عربي21" في وقت سابق، إلى أن ما يجري بين الولايات المتحدة والصين حاليا قد تكون له عواقب أشد خطورة من تلك التي شهدها العالم جراء "الحرب الباردة الأولى".

وأوضح التقرير أن الاتحاد السوفييتي وحلفاءه كانوا معزولين إلى حد كبير من الاقتصاد العالمي، وخاضعين لقيود مشددة على صادراتهم ووارداتهم.

ولكن الوضع الآن مختلف تماما؛ فالصين أصبحت الدعامة الرئيسية للاقتصاد العالمي، علاوة على أن اقتصادها مندمج إلى حد كبير مع نظيره الأمريكي.

وبحسب "بي بي سي"، فقد كانت الحرب الباردة الأولى عبارة عن صراع سياسي لا هوادة فيه ولا تفاهم، ينفي فيه كل من الجانبين شرعية الآخر.

لكن كثيرين يخشون من أن النظر إلى المنافسة الراهنة بين الصين والولايات المتحدة بهذه الشروط الأيديولوجية الواضحة قد يؤدي إلى سوء تقدير عند الجانبين المتنافسين، ويدفعهما إلى المبالغة، ما يتسبب بنتائج كارثية أكثر فداحة.

وبالإضافة إلى طبيعة الاندماج العولمي، فإن الصين أيضا أقوى بكثير من الاتحاد السوفييتي، فعلى سبيل المثال لم يبلغ الناتج المحلي الإجمالي السوفييتي في ذروته إلا 40 بالمئة من نظيره الأمريكي، وفق "بي بي سي"، بينما يتوقع أن يزاحم العملاق الآسيوي الولايات المتحدة في هذا المعيار خلال سنوات.

 

اقرأ أيضا: لماذا تأخرت أمريكا بمواجهة الصين حتى بلغت أعتاب "التفوق"؟

أسباب ضعف بنيوية

ورغم التهديد الذي يمثله موقع الصين على خريطة الاقتصاد العالمي، إلا أنها تعاني من أسباب تحد من قدرتها على الانطلاق، سواء من حيث بنية الاقتصاد المعتمد على التصدير والضعف النسبي للإنفاق المحلي، أو من حيث التموقع الجغرافي وتعدد الخصوم الإقليميين، مقابل تموقع أمريكي آمن على الطرف الآخر من المحيط الهادئ.

واستعرضت "عربي21" في تقرير سابق مشهد اعتماد الصين على الأسواق الغربية، وتدني حجم الإنفاق الاستهلاكي المحلي في الناتج الإجمالي، مقارنة ببقية الدول العشرين الكبرى.

وتبرز في المقارنة بين الجانبين قضية الديموغرافيا، التي تلقي بظلال ثقيلة على مستقبل الطموح الصيني.

فقد خلفت سياسة تحديد الإنجاب بمولود واحد في الصين، والتي استمرت 36 عاما (1979- 2015)، فجوة ديموغرافية يقدر مراقبون أن تظهر تبعاتها بشكل حاد بعد سنوات، وأن تتواصل لعقود، خاصة مع غياب سياسة لاستقطاب الأيدي العاملة والعقول، وضعف عوامل الجذب التي يتمتع بها الغرب.

واعتبر تقرير لـ"وول ستريت جورنال"، ترجمته "عربي21"، أن هذا العامل قد يكون الأهم في حسم "سباق الهيمنة" لصالح الولايات المتحدة.

ورغم تبني بكين سياسات أكثر تساهلا مع الإنجاب بعد عام 2015، لكن أزمة "الخصوبة" تتواصل، حيث تم تسجيل ما يزيد قليلا على الـ10 ملايين مولود جديد في 2020، بانخفاض قدره 15 بالمئة عن العام السابق 2019.

ومن المتوقع أن تتقلص القوة العاملة في الصين بأكثر من 0.5 بالمئة سنويا، حيث يحل عدد أقل من الشباب محل عدد متزايد من المتقاعدين، ما يضع أعباء متزايدة على الاقتصاد، في وقت تحاول فيه البلاد إنهاء الاختلال الشديد في مستوى التنمية بين السواحل الجنوبية الشرقية، والأقاليم الداخلية، بما في ذلك الأجزاء التي تتنامى فيها ميول انفصالية، وخاصة تركستان الشرقية والتيبت.

وبالإشارة إلى الإقليمين، فإنهما مصدر قلق لبكين ونواة تعكير محتمل لصفو انطلاقها على الساحة الدولية، لا سيما وأنهما يشكلان معا أقل بقليل من ثلث مساحة البلاد، ويسيطران على حدودها الغربية والشمالية الغربية، التي تحقق للعملاق الآسيوي وصولا إلى منابع الطاقة في وسط آسيا، وتمثل جزءا كبيرا من "طريق الحرير الجديد"، الذي يعد حجر الزاوية في الرؤية الاقتصادية الصينية.

التعليقات (0)