قضايا وآراء

يد الإنسان تصل إلى المريخ

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
طريق الـ"140 مليون" ميل تبدأ بخطوة!

كانت الخطوة الأولى قبل آلاف السنين، منذ أن تفتح وعي الإنسان على هذه الأرض وبدأ السؤال والاستكشاف بينما كان جائعاً خائفاً عارياً، ذلك الكائن ضعيف البنية الجسدية المطارد من الوحوش الضارية التي تزيد عليه بسطةً في الجسم والعضلات.

لكن حكمة الله اقتضت أن هذا الكائن الضعيف هو السيد على تلك المخلوقات: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا".

لم يكن مؤهل سيادة الإنسان قواه العضلية، فلو كان الأمر كذلك لسادت عليه الفيلة والسباع والخيول، بل تسيَّد بالقوة الخفية المودعة في سره، والتي تمثل أثر روح الله فيه. تلك النفخة من الروح الإلهية هي التي منحت هذا الكائن قوةً خلاقةً مبدعةً؛ قادرةً على تجاوز عجزه ومحدوديته والتحليق في آفاق السماوات والأرض، ما بدا تحدِّياً يحمل في باطنه فرصةً: "يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تنفذون إلا بسلطان".
لم يكن مؤهل سيادة الإنسان قواه العضلية، فلو كان الأمر كذلك لسادت عليه الفيلة والسباع والخيول، بل تسيَّد بالقوة الخفية المودعة في سره، والتي تمثل أثر روح الله فيه

قصر خيال الأولين عن رؤية الإمكان في هذه الآية، فلم يفهموا منها سوى التعجيز، لكن ذات الآية لم تغلق الباب أمام طموح الإنسان ومثابرته، فقيَّدت النفاذ بالسلطان، والعلم هو سلطان بتعبير القرآن: "إن عندكم من سلطان بهذا"، والإنسان ينفذ اليوم بسلطان العلم، فتصل أياديه إلى موطن يبعد عن الأرض 140 مليون ميل!

من التواضع القول إن أقطار السماوات لا تزال بعيدةً جداً عن سلطان الإنسان، فالمريخ قريب من الأرض مقارنةً ببلايين المجرات التي تنتشر في فضاء لا يقدر الإنسان على تخيل اتساعه فضلاً عن الوصول إليه، لكن هذا لا يعني التزهيد في عظمة الإنجاز. ولو أخبرنا سكان الأرض قبل ألف عام بأن الإنسان سيبدع آلةً يوصلها إلى تلك النقطة البعيدة في السماء ويتحكم بسيرها هناك ويرى من خلالها تفاصيل ذلك المكان، لانفجروا ساخرين ولاتهموا مخبرهم بالجنون، ولما قدرت كل كلمات اللغة على تقريبهم من تخيل ما نراه اليوم واقعاً.

الأيادي هي أدوات القوة، وقد أثنى الله على المخلَصين من عباده بـ"أولي الأيدي والأبصار".. الأيدي هي القوة، والأبصار هي الرؤية التي تنفذ من عالم المادة الكثيفة إلى أسرار الغيب اللطيفة. وفي هذا التعبير مؤشر على طبيعة الإنسان الذي يريده الله تعالى في الأرض، فالدين لا يريد الإنسان الضعيف العاجز المنسحب من الحياة، بل يحضُّ على تكوين الإنسان الفاعل القوي الذي يستحق الخلافة على هذه الأرض ويعمرها ويسوسها بالعدل والإصلاح.
الدين لا يريد الإنسان الضعيف العاجز المنسحب من الحياة، بل يحضُّ على تكوين الإنسان الفاعل القوي الذي يستحق الخلافة على هذه الأرض ويعمرها ويسوسها بالعدل والإصلاح

هذا النفاذ العظيم يستحيل أن ينجزه مخلوق أرضي بقوة الجسم الكثيفة، لكن الإنسان أنجزه بقوة العقل اللطيفة، وفي ذلك آية بينة على سيادة عالم اللطائف على عالم الكثائف.

ولو نظرنا في تاريخ الإنسان لوجدنا أنه صيرورة متواصلة من عالم الكثائف إلى عالم اللطائف. فالعربات التي كانت تجر بقوة الحيوانات العضلية صارت قطارات تسير بالبخار والكهرباء، وبينما كان الرجل يبذل جهداً عضلياً مضنياً لدفع جسم ثقيل أمامه فإن بوسع الرجل اليوم أن يحرك جسماً يزن مئات الأطنان بضغطة يسيرة على زر دون جهد بدني، وبينما كان نمط الحكم السائد يلجأ إلى القوة الفجة من الجيش والسلاح لإخضاع الناس، فإن الإنسان يتوسع في اعتماد أدوات القوة اللطيفة غير المرئية، مثل الفن والإعلام والتقدم الصناعي، لتحقيق الغلبة والظهور. 

وإذا كانت الروح الإلهية المودعة في الإنسان هي ألطف اللطائف، فإن هيمنة عالم اللطائف على عالم الكثائف هو اقتراب من تحقيق كلمة الله وتجلية لنفخة الروح الكامنة: "وهو اللطيف الخبير".

الدرس العظيم من وصول الإنسان إلى المريخ هو الثقة بإمكانات هذا الكائن وأن إبداعه غير متناهٍ، وأن هيمنة مناخات الإكراه والظلم والقهر تكبت وتدفن خيراً وفيراً، وأن الناس إذا آمنوا بالروح المودعة في الإنسان واتقوا الظلم والإفساد فستفتح عليهم بركات من السماء والأرض وينعمون بالثمار والكنوز المخبوءة: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ".

بلوغ الإنسان هذه الآفاق ليس ضربة حظ، بل هو ثمرة مسار فلسفي ومناخ ثقافي، فالمرء الذي يصنع هذا الإنجاز لا بد أن يكون مسكوناً بالشغف والتفاعل الوجداني مع هذه الحياة والولع بفك أقفالها وفضِّ أسرارها.
بلوغ الإنسان هذه الآفاق ليس ضربة حظ، بل هو ثمرة مسار فلسفي ومناخ ثقافي، فالمرء الذي يصنع هذا الإنجاز لا بد أن يكون مسكوناً بالشغف والتفاعل الوجداني مع هذه الحياة والولع بفك أقفالها وفضِّ أسرارها

العالِم والمخترع والمكتشف ليسوا صناعة أنفسهم، بل هم صناعة البيئة التي احتضنتهم وأيقظت فيهم دوافع المغامرة والإبداع.

الثقافة هي التي ترتب أولويات المرء، ففي ثقافة تؤمن بممكنات الإنسان وأن هناك دائماً ما يمكن اكتشافه وإضافته وتطويره؛ تزدهر العبقرية وينمو العلم، أما في ثقافة تحرم السؤال، وترى أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، وتعطي إجابات جاهزةً تفسر كل شيء.. يلجأ الناس إلى حياة التقليد والروتين، ويجهض السؤال وتنطفئ الروح.

يقول الروائي المصري يوسف زيدان:

"نشأنا في بلاد الإجابات، الإجابات المعلبة التي اختزنت منذ مئات السنين.. الإجابات الجاهزة عن كل شيء ولكل شيء فلا يبقى للناس إلا الإيمان بالإجابة والكفر بالسؤال. الإجابة عندهم إيمان والسؤال من عمل الشيطان.. ثم تسود من بعد ذلك الأوهام وتتبدد الجرأة اللازمة والملازمة لروح السؤال.. إذا أردت أن تكون فاسأل ثم اسأل.. اسأل عن كل ما كان وكل ما هو كائن وعما سيكون ولم صار العالم عما هو عليه الآن.. اسأل حتى وإن لم تعثر على إجابات؛ لأن التوقف عن طرح الأسئلة يسلمك للجمود ويعطل فكرك.. إنك بالسؤال تكون أنت لا هم..".

هناك أفراد نوابغ كثيرون منا يعملون في المؤسسات العلمية الغربية مثل ناسا، ويساهمون في هذه الإنجازات، لكنهم يبدعون داخل الحاضنة الثقافية والاجتماعية الغربية. والمسألة لا تتعلق بنبوغ الأفراد، بل بالحاجة إلى حالة جماعية من تهيئة المناخ الثقافي والفكري والسياسي للإبداع.

إذا أردنا أن نكون شهداء على الناس فيجب أن نحقق الحضور الفاعل معهم، والحضور يكون بالتحرر من أدوات الإكراه الاجتماعي والسياسي، ومن العادات الجامدة والأفكار الميتة التي تعطل إطلاق قدرات الإنسان وتثبط سعيه.

يلزمنا أن نرى القداسة التي تشتملها كل ظواهر الحياة، فالله تعالى بث آياته في أرجاء الكون من حولنا، وجعل كل ما حولنا دليلاً ومعراجاً إليه، لذلك فإن الإنسان حين يسبر أغوار الكون ويكتشف أسراره فإنه يمارس واجباً دينياً مقدساً. وليس عبثاً أن مئات الآيات في القرآن الكريم تلفت الأنظار والقلوب إلى ظواهر الطبيعة وسننها، من الجبال والبحار والأنهار والرياح والأمطار.

تعبد الله لا يكون بين جدران أربعة وحسب، بل إن عمران الأرض والتعرف على أسرار خلق الله هو عبادة وتسبيح باسم الله، وقد جُعلت الأرض كلها مسجداً وطهوراً للرسول محمد صلى الله عليه وسلم ليشجعنا ذلك على الانطلاق والسير في الأرض.

كل ما في الوجود يسبح لله تعالى: "يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض". والسباحة في آفاق هذا الكون الرحيب والتعرف على أسراره هو في جوهره إنصات لتسبيح هذا الوجود: "كل قد علم صلاته وتسبيحه".. "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون".

twitter.com/aburtema
التعليقات (0)