هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
من أجود ما قرأت عن عظمة الفرد الإنساني الأعزل إذ يعقد العزم على مواجهة آلة الكذب والاستبداد بسلاح الصدق والثبات ما كتبته لوموند بشأن عودة المعارض الروسي ألكساي نافالني إلى بلاده قادما من ألمانيا، حيث كان يتلقى العلاج من آثار عملية التسميم التي ارتكبها ضده عملاء الاستخبارات الروسية.
قالت الجريدة إن تصميم نافالني على العودة، رغم يقينه بأنه سيتعرض للاعتقال فور وصوله تمهيدا للانتقام منه في محاكمة صورية لا ترقى حتى إلى مستوى المسخرة، قد أربك نظام الاستبداد الروسي وأوقعه في حيرة فضحت من أكاذيبه وألاعيبه ما أرغمه على مزيد التورّط في خزعبلات أتحفت العالم بصورة كاريكاتورية عن حقيقته الدكتاتورية. فكانت النتيجة أنّ من صار رهين الحبس حقا ليس المعارض المسالم، وإنما هي سلطة الاستبداد التي نكّلت بالمعارض تنكيلا فصارت عارية تمام العري أمام شعبها أوّلا وأمام العالم أجمع ثانيا. ولهذا كان المقال بعنوان «الكرملين سجينا لدى ألكساي نافالني» (وليس العكس).
أما الذي فاجأني فهو أنه سرعان ما تجلّت هذه الحقيقة العميقة، المنافية لظاهر الأحداث وعناوين الأخبار، في صورة أخّاذة رسمها نافالني عند وقوفه في تلك المحاكمة العبثية الكافكائية. إذ إن للتاريخ خيالا واسعا في طرائق انطباعه البصري في أذهان الجمهور. من ذلك أن حرب العدوان الأمريكي على شعب فيتنام قد مضت بسنواتها الطوال ومجازرها وقتلاها وأطنان النابالم، فلم يبق في أذهان الجمهور في مختلف أنحاء العالم سوى تلك الصورتين: صورة الطفلة المذعورة التي تركض في الشارع عارية كما ولدتها أمها، وصورة قائد الشرطة الفيتنامي الجنوبي الجنرال لوان وهو يصوب مسدسه إلى صدغ أسير من قوات الفيتكونغ دون أن تفصل بين القاتل والقتيل، الذي كانت يداه مقيدتين خلف ظهره، أي مسافة على الإطلاق. التقطت صورة الجنرال لوان قاتلا بتصميم مخيف ودم بارد يوم 1 فبراير (شباط) 1968، بينما التقطت صورة الصبية فان تي كيم فوك باكية، ببراءة سنوات عمرها التسع، وهائمة في خلاء الضمير الإنساني اليباب يوم 8 يونيو (حزيران) 1972. يومان. بل لحظتان خلدتهما لقطتان. ذلك كل ما بقي في الذاكرة الإنسانية عن حرب من أفظع حروب القرن العشرين.
وقد أوحت هاتان الصورتان التاريخيتان ومثيلاتهما بنصوص أدبية عميقة لكتّاب مثل ديفيد سمبسون، كما اتخذها باحثون مثل روبرت هايمان وجون لويس لوكيتس مادة لاستكشاف العلائق بين الصور الشهيرة من ناحية والثقافة الشعبية والديمقراطية الليبرالية من ناحية أخرى. ذلك هو شأن الصور الشهيرة في الثقافة العالمية المعاصرة. تصير مصير الرمز والأيقونة. تكثّف الوقائع والظواهر. تحتل الذاكرة وتختزل التاريخ. وأبلغ الصور ما كان عفويا لا يعلم صاحبه بأن ما يفعله قد يجمّد في صورة عادية أو يخلّد في صورة تاريخية. ولا فرق بين العادي والتاريخي إلا بمصادفات السياق. إذ إن معلمة التربية البدنية الميانمارية شينغ هنين واي قد دأبت منذ شهور على تسجيل تمارينها الرياضية بالفيديو لتوزعها بعد ذلك على تلاميذها ومتابعيها في الفيسبوك. تعودت المرأة أن تمارس رياضتها اليومية في الهواء الطلق غير بعيد من مبنى البرلمان في العاصمة رانغون. فيديو عادي جدا يبث عشرات الملايين مثله كل يوم على شبكات التواصل. إلا أن الذي حدث يوم 1 شباط – فبراير بالتحديد هو أن فيديو تمارينها الاعتيادية قد تحول، دون علمها، إلى مشهد استثنائي ووثيقة تاريخية: إذ بينما كانت هي تتحرك على أنغام الموسيقى الراقصة، ظهر في الخلفية رتل من العربات وهي تتجه نحو قصر البرلمان لتنفيذ الانقلاب العسكري على الحكومة المدنية!
إنها رمية من غير رام. لحظة نادرة في تاريخ ميانمار سجّلها فيديو رياضي من المرجح أن يظل هو العنوان المشهديّ الأشهر لهذا الانقلاب. أما المذيع الذي تلا البيان (لأن «البلاغ رقم واحد» ملح لا بد منه في كل طبخة انقلابية)، فمن ذا الذي يذكره؟ ولهذا فلا عجب أن مشهد معلمة الرياضة قد حفظ فورا في طرائف الفولكلور العالمي، حيث وصلني من الأصدقاء فيديو مركّبا لهذه المرأة ولترامب وهما يرقصان، كل بأسلوبه، على إيقاع شرقي ساخن، بينما ظهر البرلمان في الخلفية و«الشيوعي» بيرني ساندرز في الواجهة!
أما الصورة التي قد تظل أبقى في ذاكرة الجمهور وتصير أمضى في منطق التاريخ فهي صورة ألكساي نافالني في المحكمة وهو يواجه عقوبة السجن، وحكم القهر، بابتسامة واثقة ثم يشير إلى زوجته راسما بيديه صورة قلب خافق، علامة حب خالد وعهد وفاء عاطفي ووطني.