قضايا وآراء

يا له من رئيس ويا لها من انتخابات.. سؤال "الأمريكي الحائر"

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
الشاعر الفرنسي الكبير أندريه بريتون (1896- 1966م) له جملة معبرة يصف بها من اختلت لديهم المعايير وانعدمت لديهم دقة التمييز، يقول: "أسود وأسوأ شيء هو المساواة المطلقة بين الأشياء العظيمة والأشياء التافهة".

شيء من هذا الأسود والأسوأ يعيشه الآن "الأمريكي الحائر" بين ديمقراطية تاريخية قامت عليها بلاده واعتبرتها أحد أهم رسائلها إلى العالم، وبين شعبوية تافهة ضالة مضللة بل وطارئة على جوهر ما قامت عليه الأمة الأمريكية (أرض الحرية وملجأ الأحرار)..

شيء من هذا عبّرت عنه مادلين أولبرايت (83 عاما)، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة (رئاسة كلينتون)، في مقال لها نشرته صحيفة الفايننشال تايمز يوم 11 تشرين الأول/ أكتوبر بعنوان "يجب ألا تموت الديمقراطية الأمريكية على يد ترامب". أولبرايت ابنة الدبلوماسية الأمريكية الحاصلة على الدكتوراه في العلوم السياسية، حين تستخدم لفظ "تموت" فهي تعنيه، وإلا فهناك عشرات الألفاظ الأخرى التي تشير إلى ما هو دون الموت (سنرى لاحقا أن "موت الديمقراطيات" عرض بات يحذر منه الكثيرون من المفكرين).

الحاصل، أنها أبدت تحسرا حسيرا على الذكريات السعيدة البعيدة عن "المؤسسات الديمقراطية في البلاد والعملية الانتخابية الموقرة كنماذج يحتذى بها"، ووصفت ترامب بأنه كلب يعوي داخل بركان ثائر. لا يدين التعصب العنصري ولا يتعهد بالالتزام بنتائج الانتخابات! ليس هذا فقط، بل ويبذل جهودا مشينة لتقويض الثقة العامة في المؤسسات الديمقراطية.

* * *

"كيف تموت الديمقراطيات؟"، هذا ما كان قد سبق إليه الأستاذان في هارفارد ستيفن ليفيتسكي (52 عاما) ودانييل زيبلات (48 عاما)، ووثقاه في كتاب صدر عام 2018م وترجمه الشاعر العراقي رعد زامل (51 عاما). الكتاب يشير بوضوح إلى عيّنة "الدخلاء" على السياسة من ذوي الميول الاستبدادية، أيضا إلى تجاهل المؤسسات لعلامات كانت تشير بوضوح إلى استبدادهم.

وكان انتخاب ترامب أبرز نموذج على ذلك، وما يحمله مجيئه من تهديد الديمقراطية الأمريكية من الداخل ومن الخارج (التدخلات الروسية)، ذاك الرجل الذي ينظر إلى خصومه ليسوا كمنافسين في السياسة وإنما كأعداء.. كما فعل تقريبا مع كل خصومه.. وحتى مع من كانوا في صفه ثم اختلفوا معه وغادروا محيطه.. وهم ليسوا واحدا أو اثنين بل عشرات (بولتون وبانون وكوتس..). سنتذكر طعنه بشرعية أوباما السياسية كونه من أصول أفريقية.

النظر إلى الآخر على أنه "عدو" هي قلب فلسفة التيار اليميني المتطرف القائمة على العنصرية والتقوقع وكراهية الآخر، والذي شهد صعودا واضحا في الغرب كله. وكان مجيء ترامب "الفوضوي سليط اللسان" كما يصفه المتابعون؛ أحد أبرز تجليات هذا التيار.

* * *

ثمة معياران رئيسان حافظا على الضوابط والتوازنات الأمريكية دائما هما: الأول هو التسامح المتبادل أو إدراك أن الأحزاب المتنافسة تتقبل وجود بعضها البعض، والثاني هو فكرة أن السياسيين يجب أن يمارسوا ضبط النفس في استخدام صلاحياتهم المؤسسية. هاتان القاعدتان ساهمتا بدرجة كبيرة في تعزيز الديمقراطية الأمريكية على مدار القرن القرن الماضي، وهما المعياران اللذان يشهدان انحدارا كبيرا على يد التيار الشعبوي الذي له حضوره الكبير كأكبر داعم لشخص مثل ترامب، والذي تشير الأخبار إلى أنه يشحن مؤيديه ليجهزوا أنفسهم لـ"ساعة حسم".. الحرب الأهلية، والتي يتوقع أن تكون أبرز ساحاتها ولايتي ميتشيغان وأوريغون.

* * *

يقولون إن الديمقراطية الحقيقية لم توجد أبدا ولن توجد أبدا.. وهو وصف يقترب كثيرا من الحقيقة، والتي تتأكد تقريبا كل يوم.. وأتصور أن الكلمة في حد ذاتها تحمل الكثير من المغالطة، فهي كما نعلم مشتقة من المصطلح الإغريقي القديم الذي تمت صياغته في القرن الخامس قبل الميلاد من شقين: "ديموس" (الشعب) و"كراتوس" (السلطة)، ويعني حكم الشعب لنفسه. كان ذلك في أثينا، وعلى الرغم من التباعد بين مصطلح الديمقراطية ومصطلح الأرستقراطية (حكم النخبة)، إلا أن الاختلاف بينهما ذاب تقريبا في الممارسة والتطبيق، ذلك أن النظام السياسي في أثينا اشترط لممارسة الديمقراطية وحق التصويت أن يكون "ذكرا" وأن يكون "حرا"، وتم استبعاد العبيد والنساء من المشاركة السياسية (لم تأخذ المرأة حق التصويت في إنجلترا إلا عام 1918، أمريكا 1920، فرنسا 1944م!!).

عمليا على مر التاريخ القديم والحديث، تشكلت الممارسة الديمقراطية من "النخبة"، والتي اختلف تحديدها وتعريفها بحسب قوتها وقدرتها على السيطرة. وقد طرح مجيء الرئيس الأمريكي المنتخب من شعبه عام 2016م (دونالد ترامب) أسئلة كثيرة حول فكرة الديمقراطية وتطبيقاتها، وهل هي هدف في حد ذاته أم طريق صحيح للوصول للهدف الصحيح؟ وكيف تمكن حماية هذا الطريق من (قطاع الطريق؟ وهم بالمناسبة كثيرون.. الشركات العملاقة وأسواق النفوذ، الماكينة الإعلامية الضخمة للسيطرة على العقول، الأيديولوجيات والأفكار المطلقة.. الخ).

ونستون تشرشل (1874- 1965م) قال إن الديمقراطية هي أسوأ نظام حكم لأنها منحت حق السلطة للشعب غير المخول بممارستها أصلا، فهل هذا كان تحذيرا مبكرا من تيارات اليمين المتطرف وقياداته "الشعبوية"؟ صحيح تشرشل كان عنصريا ونخبويا وطبقيا.. لكن كلامه يجب أن يؤخذ في الاعتبار، خاصة وأن كثيرين يعتبرون أن الإسهام الأكبر الذي قدمته بريطانيا للعالم هو البرلمان والحكومة.. برلمان منتخب من الشعب وحكومة مسؤولة أمام البرلمان، علما بأن وسائل الإعلام وتأثيراتها المذهلة، أيضا الشركات التي تعولمت وتعملقت وتعمقت، لم تكون قد بلغت مداها الذي بلغته في العشرين عاما الماضية.

ولعل أشهر ما كُتب حول ذلك هو كتاب "المتلاعبون بالعقول" الذي كتبه هربرت شيللر (1919- 2000م)، الأستاذ في جامعة كولومبيا. للكتاب عنوان جانبي بالغ الدلالة، وهو "كيف يجذب محركو العرائس الكبار في السياسة والإعلام ووسائل الاتصال الجماهيري خيوط الرأي العام؟". الترجمة الحرفية للكتاب "مديرو العقول" أصدرته سلسلة عالم المعرفة الكويتية العريقة (العدد 106) وترجمة الأستاذ عبد السلام رضوان - رحمه الله - عام 1986. والفكرة العامة للكتاب تدور حول حقيقة مؤكده تقول: إنه أمام الضغط الإعلامي المتكرر لا يجد الجمهور فسحة للتأمل والتفكير والتحليل، ويقدَم إليه الوعي جاهزا، ولكنه وعي مبرمج ومعد سابقا وباتجاه واحد ومرسوم.

* * *

سيحتاج الأمر وقتا طويلا لإعادة تأسيس صورة أمريكا كـ"نموذج ومثال للديمقراطية". الدولة الأمريكية ذاتها باتت مهددة بالانهيار لو نفذ ترامب وعيده وأشعل حريقا هائلا من الاحتجاجات يمهد لحرب أهلية (نجله قال في تغريده حصلنا على 70 مليون صوت ولم تحرق مدينة أمريكية حتى الآن، وطلب من والده أن يخوض حربا شاملة بشأن الانتخابات الأخيرة)..

فقط علينا الانتباه إلى أن سبعين مليون مواطن أمريكي صوتوا لترامب لا يحبون الديمقراطية ولا مؤسساتها ولا يعترضون على خرق القوانين، ولا يعنيهم أن يكون من صوتوا له متهربا من الضرائب.. سبعين مليون مواطن أمريكي صوتوا لرجل لا يحترم دستور البلاد ومؤسساتها وقوانينها.

المواطن الأمريكي الآن على نصل سكين حاد أمام واجبه ودوره في الكيفية التي ينظر فيها إلى نفسه وإلى بلاده.. إنه الأمريكي الحائر الذي يتوجب عليه الآن أن يلتقى بذاته ويحاورها بعمق، وفي حضور تام لكامل وعيه بما يمكن أن يكون عليه مستقبل بلاده.

twitter.com/helhamamy
0
التعليقات (0)