مقالات مختارة

"الصندوق الإبراهيمي" ودور بلير في التطبيع الإماراتي الصهيوني

محمد عبد الحكم دياب
1300x600
1300x600


أسفر «الصندوق الإبراهيمي» عن وجهه، فبدأ تأسيسه بأموال إماراتية، وإشراف (إسرائيلي) أمريكي، وأضحت هذه الأموال مصدرا حقيقيا لتمويل الصندوق؛ وقد وصفته قناة «سي إن إن» الأمريكية، بـ«صندوق استثمارات بثلاثة مليارات دولار» ويهدف لترويج المشروعات الاستيطانية والتوسعية الحالية والمستقبلية، ولا يخرج عن كونه نسخة مستحدثة من «الصندوق القومي اليهودي» الذي تأسس في 1901. ويحمل نفس مضمونه وأهدافه، وكانت وقتها لتمويل الاستيلاء على الأصول العربية والممتلكات الفلسطينية، ومنحها للمهاجرين اليهود، الذين بدؤوا في غزوهم البشري تباعا، مع إغماض «العيون العثمانية» ثم انتقال المسؤولية والولاية للانتداب البريطاني؛ عراب المشروع الصهيوني الأكبر، ومخلبه الدامي، لنهش اللحم الفلسطيني ونهب الثروات العربية، ومصادرة الممتلكات العامة والخاصة، والاستحواذ على المقدسات الإسلامية والمسيحية، وإعمال مبدأ «فرق تسد» و«شيطنة» من يقف ويتعاطف مع الحقوق الفلسطينية والعربية المشروعة والعادلة.

وها نحن نعيش كابوس استثمار أموال النفط العربي، وعوائد الاستثمارات الإماراتية في تنفيذ مخططات واشنطن وتل أبيب، ووصولها حد الضغط على السودان، وإجبار حكامه الانتقاليين على التطبيع، ودخول حظيرة «الصهينة» واللحاق بقطارها المتحرك لباقي محطات شبه الجزيرة العربية والخليج، ومهمة «الصندوق الابراهيمي» تمويل بناء المستوطنات الجديدة؛ الحصينة والمسلحة، وحسب «سي إن إن» الأمريكية منذ أيام (20 /10 / 2020)؛ يمثل نقلة نوعية للمخطط الصهيوني الراهن؛ مع أول زيارة رسمية لوفد إماراتي إلى تل أبيب.

وأشار وزير الدولة الإماراتي إلى أن «الصندوق» يلبي رغبة الدول الثلاث في وضع رفاهية الناس في المقام الأول، بغض النظر عن عقيدتهم أو هويتهم»!! ونوه لثقة الإمارات في نجاعة مبادرة «الصندوق الإبراهيمي»!! كـ«مصدر قوة اقتصادية وتكنولوجية للمنطقة، التي تُحسن من حياة من هم في أمس الحاجة إلى الدعم»!! وهو ما قال به آدم بوهلر الرئيس التنفيذي لمؤسسة تمويل التنمية الأمريكية؛ بأن «الصندوق الإبراهيمي» يعالج التحديات التي تواجه المنطقة، ويزيد من الفرص الاقتصادية للجميع». وهم «متحمسون للارتقاء بتلك الشراكة التاريخية لتعزيز الرخاء المشترك»، وهي أقوال وتصريحات خادعة شكلا وموضوعا، وتمثل تدليسا، وإهانة للحق والعقل والمنطق.

وأكد البيان المشترك الصادر عن وزارة الخارجية الإماراتية، «أن الإمارات (وإسرائيل) والمؤسسة الأمريكية لتمويل التنمية الدولية سيخصصون المال اللازم «ضمن إطار مبادرات الاستثمار والتنمية، التي يقودها القطاع الخاص لتعزيز التعاون الاقتصادي الإقليمي والازدهار في الشرق الأوسط وخارجه»!! وبدا ذلك تغطية للسقوط الوطني والسياسي، غير المبرر، ونتيجة لانقياد أعمى وراء ترامب، الذي أورد الإمارات موارد التهلكة، ودفع بها إلى الانتحار السياسي، ولم تكن في حاجة إلى ذلك!!

وصرح المدير العام لمكتب بنيامين نتنياهو بأن: «الصندوق الإبراهيمي أداة أساسية في تحقيق رؤية قادتنا لتعزيز التعاون الإقليمي، ودعم براعة رواد الأعمال لدينا، وتدبير المتطلبات المالية اللازمة، وتوفير التسهيلات من حكوماتنا» فـ«الجمع بين الأعمال والتمويل والدعم الحكومي أمر أساسي في قيام المشاريع على أرض الواقع» ورأينا فيها إأها مشاريع دموية؛ تفجر الصراعات، والعنف المستمر، والإرهاب المنظم، والتطهير العرقي، الذي لا يتوقف، والتهجير القسري الدوري، والطرد المتعمد للسكان من ديارهم!
وتبدو التحليلات السياسية والاقتصادية الاستراتيجية، والتمسك بالعمل السلمي والمبادئ الإنسانية، غير كاف، ويبقى اللجوء للتحليل النفسي (السيكولوجي) ضروريا، فقد يفتح آفاق المعرفة والفهم؛ هل العقد والعاهات النفسية تسببت في هذا الانسحاق؟ هل «السادية» أم «المازوشية»؛ تقف وراء ما يعاني منه المطبعون؟ الأولى تنسب لضابط وروائي فرنسي هو الماركيز دو ساد (1740-1814) وهي عاهة نفسية تعتمد الأذى والتعذيب طريقا للاستمتاع واللذة، وتتسبب في اضطرابات نفسية وعصبية. والعاهة الأخرى؛ تستمد اسمها من اسم كاتب نمساوي هو ليوبولد زاخر مازوخ (1836-1895) وتتسبب في اضطرابات النفسية وعصبية معاكسة للعاهة الأولى، ويسعى المصاب لاكتساب اللذة إلى تعريض نفسه للتعذيب والأذى، وكلاهما يتناقضان سلوكيا وعصبيا؛ لكن يجمعهما طريق الحصول على اللذة بالألم والعذاب؛ أحدهما يتلذذ بإيلام الآخر وإيذائه، والثاني يستمتع بإيقاع الإيلام بنفسه في علاقته بالآخر.

استطاع بلير إعادة الثقة بين أبو ظبي وتل أبيب، بعد أزمة اغتيال محمود المبحوح؛ القيادي في «حماس» بمدينة دبي عام 2010، على يد الموساد الصهيوني، ونقل مولخو رسائل قرَّبت بين نتنياهو ومحمد بن زايد ولي عهد الإمارات

وهل هذا حال المسؤولين المتحكمين في أرزاق البشر ومصائر الأوطان؛ يعانون من أحدى العاهتين؛ فيهم مَنْ يستمتع ويتلذذ بإلحاق الضرر بالغير، ويستمتع بمعاناة من يحب، وإلحاق الأذى به؟ ومنهم الذي يمارس العكس، ويتولى إيذاء نفسه، ويتلذذ بالقسوة من الغير، وإذا كان «الصهاينة» العرب والمسلمون يعانون من أي من العاهتين، فليسوا في حاجة لسياسة، ولا سعي لمكانة، أو مقاعد سلطة، ولا يلزمهم التحلي بالأخلاق، ويحتاجون لمصحة أو مركز للتأهيل العقلي والنفسي، وللمختصين في الطب أو في التحليل والعلاج النفسي!!

وكانت لذلك شواهد ومقدمات في الواقع الرسمي العربي والإسلامي الراهن، فقبول تعيين توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق؛ المعروف بانحيازه للمشروع الصهيوني ودولته، وصاحب موقف اتضح مع طرح «صفقة القرن»؛ لتصفية القضية الفلسطينية، وشطبها من الجغرافيا والوجود الواقعي، وكان ذلك سببا في فرضه على اللجنة الرباعية، من طرف واشنطن؛ دون أخذ رأي باقي أعضائها الثلاثة، وعُيِّن مبعوثا لـ«السلام» في «الشرق الأوسط» في لجنة تشكلت من الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والاتحاد الروسي، والأمم المتحدة،

ونال ذلك التعيين ترحيب واشنطن وتل أبيب، وقوبل بانزعاج ألماني، وأبدى وزير الخارجية ألمانيا، فرانك فالتر شتيانماير، انزعاجه من عدم دراسة أمر بلير بالمستوى المطلوب. وأثار امتعاضه عدم اختبار قدرة بلير في القيام بمهام المنصب الذي وُضِع فيه، وعلق شتيانماير على بفوال: «من الطبيعي ألا يلقى أمر مثل هذا استحسان أي عضو في اللجنة (الرباعية)». وتأخر الإعلان عن اختيار بلير بسبب الاعتراض الروسي على عدم التعمق في مناقشة ذلك التعيين داخل اللجنة المعنية، وقبلت السلطة الفلسطينية ببلير، الممثل غير الرسمي لواشنطن في عمل هو الأعقد على مستوى؛ هي القضية الفلسطينية، ورفضته فصائل المقاومة كافة، ومنها حركة المقاومة الإسلامية «حماس».

وسبق لصحيفة «الغارديان» البريطانية أن اتخذت موقفا واضحا من بلير ودمغته بالانحياز، «الذي لم يسبق له مثيل» على حد قولها، وعرضت في مقال لها «الضيق والاحتجاج المتزايد لدى شريحة مهمة من الكتاب والمثقفين البريطانيين تجاه حكومة بلير، وسيرها الأعمى خلف سياسة أمريكا ورئيسها بوش الابن، والتماثل في كل شيء، حتى في الانحياز الأعمى للجرائم التي ارتكبها شارون في فلسطين»، ووصفت مواقفه بأنها وصلت لمستوى من السفور «لم يصل إليه أحد من قبل مطلقا». وقارنت «الغارديان» بينه وبين تاتشر فقالت؛ «إن حكومة بلير وصلت في مساندتها لـ(إسرائيل) حدا لم تجرؤ عليه حكومة مارغريت تاتشر، وعن التفكير فيه» وتساءلت الصحيفة عن السبب الذى يدعو حكومة بريطانية لانتهاج مثل هذا الموقف؟!! وقالت هل لأن بلير يخضع بصورة زائدة عن الحد لتأثير مستشاريه الموالين لـ(إسرائيل)؟! أم إنه رأى، كما هو معتاد منه، أن أفضل أسلوب يمكن انتهاجه في مجال السياسة الخارجية هو أن يكون على ارتباط وثيق بواشنطن».

وكشفت صحيفة «إسرائيل اليوم» مؤخرا دور بلير في التطبيع الإماراتي الصهيوني، واعتبرته دورا بالغ الأهمية؛ نجح في إطلاق مفاوضات سرية؛ انتهت بالتطبيع، ونشرت الصحيفة المقربة من نتنياهو (10/ 09/ 2020) قيامه بوساطة شخصية ورتب لاجتماعات سرية بين إسحق مولخو؛ مستشار سابق لرئيس الحكومة الصهيونية مع مسؤولين إماراتيين؛ في عواصم أوروبية وخليجية، ونقلت عن مصادرها أن مولخو اجتمع بوزير إماراتي في لندن وأبوظبي ونيقوسيا، وكانت اجتماعات لوضع أسس انطلاق التطبيع والصهينة مع حكومة الإمارات، و«أصبحت المفاوضات؛ عبر القنوات الخلفية ممكنة بجهود بلير»، وأدار مولخو محادثات تمهيدية فيما بين 2015 و2018؛ إلى أن تنحى مولخو، بسبب شبهات أحاطت به، تخص بيع غواصات ألمانية لـ(إسرائيل).

واستطاع بلير إعادة الثقة بين أبو ظبي وتل أبيب، بعد أزمة اغتيال محمود المبحوح؛ القيادي في «حماس» بمدينة دبي عام 2010، على يد الموساد الصهيوني، ونقل مولخو رسائل قرَّبت بين نتنياهو ومحمد بن زايد ولي عهد الإمارات، وأسفرت عن اتصالات؛ أفضت لاجتماعات بدأت في 2018، وانتهت باتفاق التطبيع في آب-أغسطس الماضي، وتم التوقّيع عليه في واشنطن في الخامس عشر من أيلول- سبتمبر المنصرم، وقوبل بتنديد فلسطيني واسع، واعتبرته السلطة والفصائل الفلسطينية «خيانة» وطعنة في ظهر الشعب الفلسطيني وقضيته!!


القدس العربي

0
التعليقات (0)