-1-
في المرويات الشعبية، المستندة إلى ما ورد في ما نسميه في تراثنا الإسلامي "الإسرائيليات"، وردت قصة الملك سليمان عليه السلام مع المرأتين اللتين ادعت كل منهما أنها أم الطفل المتنازع عليه!
تقول القصة: إنه ذات يوم كانت هناك امرأتان، ومعهما ابناهما الرضيعان، فجاء الذئب، وأكل ابن إحداهما. فقالت الكبرى للصغرى: أكل الذئب ولدك، وهذا ابني. وقالت الصغرى: بل أكل الذئب ابنك أنت، وهذا ولدي. واختصمتا إلى نبي الله داود عليه السلام..
في مجلس القضاء، لم تعرف الصغرى كيف تبين حجتها وتبرهن على أن الولد هو ابنها، فحكم نبي الله داود بالولد للكبرى، فحملت الولد مغتبطة فرحة، وانطلقت الصغرى حزينة كئيبة تندب حظها، فلما رآهما سليمان بن داود عليهما السلام، دعاهما، وسألهما عن خطبهما، فأخبرتاه بما ادّعت كل منهما، وبما حكم به أبوه. وكان سليمان ذا نظر ثاقب، آتاه الله الحكمة، وعلّمه فصل الخطاب. فقال في نفسه: إن الذي يحكم في هذه القضية العاطفةُ لا العقلُ، فلأختبرن المرأتين، فمن ظهر منها الحب الأكبر للرضيع حكمت به لها، فقال لهما: كل واحدة منكم تعتقد أن هذا الولد لها؟ قالتا: نعم . قال: وتصر أنه ولدها؟ قالتا: أجل. فقال لمن حوله من الرجال: آتوني أيها الرجال بالسكين، أشقه بينهما نصفين. فسكتت الكبرى.. ونادت الصغرى متلهفة: لا لا.. لا تفعل ذلك رحمك الله، هو ابنها، ولم توافق على ذلك. ورضيت أن يكون ولدها للكبرى.
حينها نظر سليمان إليها، وقال: هو لك فخذيه، وحكم به للصغرى!
وما أشبه هذا الطفل بفلسطين، فهي تاريخيا، ومنذ أن بدأ الصراع العربي الصهيوني منذ أكثر من قرن من الزمان تستعصي على القسمة، بل إن في هذه القسمة موتها، ولا يحتاج المرء لبحث معمق أو طويل ليصل إلى هذه الحقيقة، منذ وضع الانتداب البريطاني خطة التقسيم، وتبناها ما يسمى "المجتمع الدولي"، ووافق عليها اليهود ورفضها العرب، مرورا بكل مشاريع التسوية، وصولا إلى "حل الدولتين" الذي وافق عليه العرب ورفضه اليهود، إلى أن آلت القصة إلى قسمة أو شرذمة وضيعة وضعتها خطة القرن، ولم يوافق عليها لا العرب واليهود، وإن بدا أنهم وافقوا لفظا وإعلاما. ففي الحقيقة هم أخذوا من تلك الخطة ما يوافق هواهم من ضم وغيره، وأسروا الرفض لأن العرب (الفلسطينيين تحديدا!) كفوهم مؤونة الرفض!
في روايته "الزمن الأصفر"، يقول الروائي الصهيوني دافيد غروسمان، إن العرب واليهود يشبهان شخصين يجلسان على خشبة في عرض البحر، فإن بقيا عليها غرقا كلاهما، لذا لا بد من تخلص أحدهما من الآخر كي لا يغرق. وهذا ما استشهد به غير مرة رئيس الوزراء الصهيوني ووزير الحرب الأسبق إيهود باراك، وهو ما استقر في وجدان الساسة اليهود كلهم، سواء كانوا من اليمين أو الوسط أو اليسار. ولا يُستثنى من هذا سوى من يقفون على يسار اليسار، وهم اليوم قلة في الكيان أو مجرد فلول لا يحفل بهم أحد، بل إن اليمين يهدر دمهم ويعدهم مجرد خونة للصهيونية. وقد وجدت هذه الحقيقة تعبيرها الخشن في اغتيال رابين الذي حاول القفز عن هذا الاعتقاد الراسخ فوافق على اتفاق أوسلو، الذي تضمن على نحو ملتبس تقسيما من نوع ما للأرض الواحدة، فحكم عليه بالإعدام!
-2-
في لحظة تجل "رومانسية" ينشر اسفسكي ليفي مقالا في صحيفة "هآرتس" (التي تعتبر لسان حال اليسار إلى حد كبير) يوم 27 أيلول/ سبتمبر 2020 بعنوان: "اتحاد دولتي إسرائيل وفلسطين"، يعبر فيه على نحو أو آخر عن الفكرة ذاتها (استحالة التقسيم) فيقول: "في العام 2020، بعد 150 سنة تقريبا على النزاع الدموي والوحشي والعنيد، حان الوقت للشعب اليهودي كي يصنع سلاما مع العرب، سلاما يشكل إعادة قبول لليهودي في أرجاء الشرق الأوسط، مكانه التاريخي، مكانه الطبيعي.. سلاما هو اعتراف وقبول وتسليم وتصالح مع أبناء الشعب الفلسطيني، أبناء هذه البلاد، سكانها الأصليون وأطفالها.. سلاما هو خلق شراكة متساوية وحقوق كاملة متساوية لجميع سكان الأرض. البلاد هي واحدة وهي لنا جميعا. منذ العام 1937 وحتى الآن العالم يحاول تطبيق صيغ مختلفة للفصل بين أبناء العم، أبناء إبراهيم، اليهود والعرب، ولكن بدون نجاح. المنطق خلف مبدأ الدولتين يقول إنه إذا تم فقط فصل التجمعين السكانيين، هؤلاء هنا وأولئك هناك، فسيقتنع الشعبان بنصيبهما وسيضعان السلاح وسينهيان العداء. هذا لم يحدث ولن يحدث".. إلى أن يضيف: البلاد نفسها كأنها لا تريد أن تنقسم. هي تتحدى سكانها المتشابكين الواحد بالآخر وتقول لهم: يجب عليكم أن تجدوا حلا آخر!".
انتهى الاقتباس، وإن لم تنته الاقتراحات والصراعات، ولن تنتهي، فالأرض فعلا لا تقبل القسمة على اثنين، و"الشعبان" لا يمكن أن يعيشا معا، لأن أحدهما يتصرف كوحش ضار، والثاني يرفض الاستسلام، وتلك الفكرة الرومانسية التي تعدّ شكلا ما من أشكال حل الدولة الواحدة مكانها الكتب لا على الأرض، ولهذا يبقى الصراع مفتوحا، ربما بانتظار المفاصلة الكبرى، التي ينتظرها كل من الطرفين، وما سوى هذا مجرد تغميس خارج الصحن!