كتاب عربي 21

ياسر العظمة: الشعر والرسم والموسيقا والقدوة

أحمد عمر
1300x600
1300x600

أثنى كثيرون على حلقة تذّكر فيها ياسر العظمة معلميه ومدرسيه، وعنوانها أساتذتي، وقد نزح إلى يوتيوب. لا يعرف السوريون ممثلاً انشغل بالتأصيل والأصول مثل ياسر العظمة، هو مختلف عن أقرانه، في نأيه عن فساد الفنانين وأهوائهم، وفي جملته الشامية الفصيحة وحضّه على الفضيلة ومكارم الأخلاق، وفي جمعه بين الطرفة والشرفة.

وقد صار أبطالنا ممثلين ومطربين، نرجو منهم ما نرجو من خالد بن الوليد والقعقعاع التميمي، وكان الممثل مشخّصاتياً في الوعي السوري والعربي عموماً. وسبب الازدراء الموروث هو الكذب، فالممثل يتقمص شخصيات كثيرة، حتى أنه ينسى شخصيته الحقيقية، كما قال مارلون براندو الذي زهد في الأضواء واعتزل الناس، وتعالى على استلام الأوسكار التي يتكالب عليها النجوم. وكان النظام يدرك بغريزته هذا الأمر، فرفع من شأن الممثل والمطرب، وأزرى بالأدباء والمفكرين والعلماء، فالممثل لا يشكل خطراً عليه، فتمثيلياته لا تُبثّ إلا بعد موافقة الرقابة، فإن فعل كما فعل عبد الحكيم قطيفان وفارس الحلو مثلاً، حُجبت مسلسلاته، فحرية الممثل أقل من حرية الكاتب الذي يكتب وينشر في صحف بعيدة أو بأسماء مستعارة، ولا يحتاج الكاتب إلى آلات تصوير ومال إنتاج.

ذكّرني ياسر العظمة بأساتذتي، وقد حظي بمعلمين كبار، يشار لهم بالبنان، وكنا نحفظ قصائد بعض معلميه. وثمة شكوى شائعة من أن جيل الحركة التصحيحية فاسد، وعانى نقصاً كبيراً في أمور ثلاثة هي أهم من العلوم والأدب في بلاد الغرب وهي: الموسيقا والرسم والرياضة. ثم صار النقص في كل علم، سنذكر أسباب تراجعها، وكان الجيل الذي سبقنا في الموسيقا والرياضة والرسم من السابقين فإن لم يكن فمن المصلّين.

الموسيقا:


إن الجيل الذي سبقنا حتى آواخر الخمسينيات والستينيات، جيل الكتّاب والعصا الذي سخرت منه مسرحيات كثيرة، كان حاذقاً في فن الموسيقا، ليس العزف على أدوات مثل البيانو، فليس منا ولسنا منه، لقد كان في الكتّاب يتعلم الأبجدية ويحفظ القرآن، ويتخرج متعلماً أصول التجويد من إظهار وإخفاء ومدود وقلقة وإدغام وإقلاب، ويحفظ كثيراً من الأشعار، إذ صبّ الأولون قواعد النحو والأخلاق في قوالب شعرية حتى يسهل حفظها، وما وجدت أحداً من ذلك الجيل إلا وقرض الشعر، وأقلهم من قال عشرة أبيات، فإما حمدَ فيها الله، وإما وعظ الناس، وإما أنشد على نهج البردة، وأثنى على محاسن النبي العدنان، بل إنهم كانوا يقولون شعر الغزل، وكانوا يعرفون من مجالس الذكر والموالد النبوية الابتهالات والمقامات، فتلك كانت الموسيقا في الشرق المسلم.

في الحلقة الأولى من مسلسله يقرض ياسر العظمة أبياتاً من الشعر، والشعر العربي وزن وموسيقا، ورأيناه في إحدى الحلقات القديمة يعزف على مزمار من مزامير داود.

الرسم:

إن حضارة العرب المسلمين حضارة نص، ليس فيها رسم، الرسم هو الخط العربي وفنونه، وكان فن المسلمين الأعاجم هو فن المنمنمات. ولم نرسم في المدرسة من الصف الأول حتى الثانوية العامة سوى المنظر الطبيعي، والمزهرية، لجهلنا وقلة الرسامين العرب، فقد كان التصوير شبه محرم، ومضاهاة لخلق الله.

لكن الأجيال التي سبقتنا كانت تتقن فناً عظيماً من الرسم وهو فن الخط العربي، وهو فن من أعظم الفنون، وأقلهم من أجاد نوعاً من واحداً من الرسم هو خط الرقعة، خط الشعب. وقد رأيت كتباً للبوطي عند الأصدقاء وعليها توقيعه بخطه الرقعي الفاخر، وأهداني عصام العطار كتاباً، فكتب لي بخط الرقعة البديع. وكان جيراني من الملالي يكتبون بالرقعة، وكنت أقرأ أحياناً الرقى والأحجبة، فأجد خطوط الأئمة الرائعة. نذكر بأنّ بيكاسو عد فن الخط العربي قمة لم يبلغها إلى أن بلغ الخامسة والسبعين.

الرياضة:

 

حظنا من الرياضة قليل، لا أستطيع أن أجد له تبريراً وعذرا، فلن أستطيع أن أدفع عنا تهمة التأخر في الرياضة، وأرى أنَّ البدن العربي بدن وقور، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام سابق أم المؤمنين عائشة، فسبقها مرة وسبقته مرة، وكانت حصة الرياضة في جيل ما بعد الحركة التصحيحية مهدورة، فالكرة ثمينة وأحياناً تفتقر المدرسة إلى كرة، وإن وجدت فالمدير يبخل بها على الطلاب لغلاء ثمنها. كان يمكن لمدرس الرياضة أن يجعلنا نتسابق في الجري، في الوثب، لكن الرياضة كانت مهدورة. هناك عشرات أصناف الرياضة لكن النظام السياسي العربي المعاصر لم يكن يحب العلم ولا الأدب ولا الرياضة ولا الرسم. وكانت فرق الكشافة مع نشوء الدولة السورية الحديثة، تسافر وتعسكر في الأحراش في عهد ما قبل الاستقلال. جاء في الأثر: علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل.

وقد أتيح لياسر العظمة من يعلمه السباحة، واستمتع الكثيرون بمراياه التي كانت مقعرة أحياناً ومحدبة أحياناً. هناك حلقة قدّم فيها تلميذاً يتطاول على معلمه، فيبلغ الخبر والد التلميذ المتنفذ، فيغضب، ويعتذر من المعلم أمام الطلاب، وهذا شديد الندرة إن لم يكن ممنوعا، لعله مثّلها حضاً على الخير الذي كان مستحيلا في نظام بُني على الفساد، والحلقة التي سخر فيها من أمين الحافظ، وهو يستحق السخرية، لكن هناك من هو أولى بالسخرية من أمين الحافظ؟

نعلم أن الرقابة لن تبيح له نقد الرئيس أو تقليده، ونعذره. وأدركنا أن النظام ركب مراياه ووجده فيها نقطة تنفيس. اصطحب الرئيس السوري ياسر العظمة لزيارة بعض المدارس مرة، وكان العظمة يجتهد في النأي عن صحبة المتنفذين الفاسدين والصالحين، لقد استطاع النظام إفساد من لم يفسد، وبذل العظمة جهداً في الحفاظ على نفسه من التلوث، فهل نجا؟

يقال إن التنفيس مفيد، لكن التنفس أفيد.

ثم دارت الأيام، وقامت الثورة، وسأل الناس عن بطلهم الذي كان ينتقد النظام رمزاً وإشارة بقصص عزيز نسين في البدايات، والتورية والمعاريض من حكايات شعبية، ثم نزح مثلنا، وانتظر الناس ما ينتظرون من الممثل الرائد الناقد الطريف الذي نفّس عنهم كربهم، فكانوا يتعزون بتمثيلاته، ويتأملون خيراً، وساح الدم، وقتل مئات الألوف، وانتظروا أن يقول ما قال قاله عمه الذي لم يكن له سوى ابنة، استودعها لدى أهله ومضى شهيداً وهو يقارع الفرنسيين في معركة ميسلون التي كتبت فيها أشعار وأناشيد، وأقيم للبطل تمثال من تبرعات المهاجرين السوريين، وكان الذي صممه مثّال إيطالي، وظهر مثاله وهو يتأهب للمبارزة ويثير الفخر والبطولة في النفس، ثم استبدله النظام التمثال الذي كان يشعر بالغيرة منه، بتمثال في مكان آخر، فنقله من ساحة نادي الضباط إلى المحافظة، إلى ساحة غير التي ولد فيها، وهو ما يعادل "التنسيق" بالمصطلحات الشائعة في دوائر النظام، وهي تشبه الإقالة، وظهر المثال وديعاً، مثل خادم في مطعم، يضع إحدى يديه وراء ظهره، والتمثال يكاد أن يقول: أمرك سيدي!

وقد آثر ابن أخيه الصمت، فلم ينبس ببنت شفة في الثورة، لكنَّ بعضاً من محبيه لا يزالون يرون فيه بقية من خير، فهو لم يهن نفسه بالظهور على الشاشات مثل الزير سلوم باكياً مقدسا بوط الجندي السوري، أو مثل بسام كوسا أو مثل رغدا، لقد استطاع المكوث في منطقة الحياد الرمادية، وسمح له النظام أن يبقى فيها، فهو منها كسبان كما يظن، يداه وراء ظهره مثل تمثال عمه، وكان محبوه ينتظرون منه أن يبقى منفياً، لا يقبل العودة إلى أن يعود كل سوري عزيزاً كريماً، ربما انتظروا منه أضعف الإيمان أن يقول مثل غاليليو غاليلي همساً بشخصية ياسر العظمة وليس بشخصية أبو الفضل: إنها تدور.

twitter.com/OmarImaromar

التعليقات (0)