مقالات مختارة

أفغانستان أمريكا: ظلّ "القاعدة" الذي يتجدد ويترامى

صبحي حديدي
1300x600
1300x600

في موقع "فوريين أفيرز" المجلة النافذة التي تصدر عن "مجلس العلاقات الخارجية" الأمريكي، يساجل أسفانديار مير وكولن ب. كلارك بأنّ "العلامة التجارية" التي تحيل إلى منظمة "القاعدة" تشهد اليوم حالة من "إعادة الإقلاع" Reboot. المؤشرات على هذا تتكاثر، بعد 19 سنة أعقبت هجمات أيلول (سبتمبر) الشهيرة ضدّ أهداف أمريكية؛ وبعد مزاعم انتصار صدرت عن مسؤولي الإدارة الأمريكية الراهنة، اعتمادا على سلسلة ضربات ناجحة في أفغانستان وباكستان وسوريا واليمن؛ والأخذ في الحسبان، بعد ذلك، ما تعرّضت له المنظمة من تهميش، أو حتى إضعاف ملموس، بفعل صعود "داعش" في مناطق عديدة.

ويرى الكاتبان أنّ حرص الإدارة الأمريكية على تسجيل هزيمة "القاعدة" يتجاوز تضخيم منجزات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى أهداف أخرى تكتيكية أو حتى جيو ـ سياسية، مثل تخفيض أعداد القوات الأمريكية في أفغانستان، أو تبرير التفاوض والتوصل إلى اتفاق مع طالبان: "زعم إدارة ترامب أنّ القاعدة في محاق نهائي يُغفل المرونة العنيدة التي تتصف بها المجموعة ويفشل في احتساب ثباتها السياسي"؛ خاصة في مناطق القرن الأفريقي والساحل، فضلا عن وقائع متفرقة ليست قليلة الأهمية، مثل الطيار السعودي المتدرب في قاعدة بينساكولا الأمريكية. الأهمّ في هذا الصدد أنّ "القاعدة" ما تزال تتمتع بمساندة الطالبان، وترقب عن كثب مآلات تفاوضهم مع الولايات المتحدة، بل لم تتردد في تأييد الصفقة التي تمّ التوصل إليها في شباط (فبراير) الماضي، فاعتبرتها إقرارا من العدو بهزيمته في أفغانستان.

من جانب آخر، لا يأتي الكاتبان بجديد لافت في ملفّ قديم لا يشهد من التغيرات إلا إضافة أوراق متكررة إلى سجلّ متكامل متماثل، أطلقته وتكفلت بديمومته مؤسسة استثمارية استحقّت بالفعل علامة تجارية بدورها: "شركة الجهاد العالمية" Jihad Enterprise International! وهذه نهضت بتخطيط مباشر من الاستخبارات الأمريكية، تحت إشراف زبغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد جيمي كارتر؛ وقد أنتجت (قبل العناصر الجيو ـ سياسية والعسكرية والأمنية) شبكة مصالح اقتصادية ومالية واسعة النطاق، وتاجرت بالسلاح والمخدّرات أساسا. ومنذ عام 1988 كانت مجلة The Nation الأمريكية قد كشفت حقائق تغاضي المخابرات المركزية الأمريكية عن عمليات تهريب المخدرات في الشاحنات العسكرية الأمريكية التي كانت تنقل السلاح والمؤن إلى "المجاهدين" من ميناء كاراتشي إلى بيشاور.

واضح، إذن، أنّ عملا هائلا كان ينتظر الولايات المتحدة، وحليفاتها بالطبع، في أفغانستان تلك الأيام؛ لجهة توريط الجيش الأحمر السوفييتي أكثر فأكثر هناك: مستنقع حروب العصابات، وحروب الطوائف، وحروب القبائل. ثمّ بات واضحا أنّ أفغانستان تراكم الأوراق في الملفّ إياه، ولا تقدّم الدلائل على اختلاف ملموس، فما بالك أن يكون كبيرا جوهريا، عن أفغانستان ما بعد انسحاب السوفييت في عام 1989؛ وأنها ما تزال إمارات مبعثرة قائمة على الولاءات الإثنية والقبائلية أكثر من الخطوط الإيديولوجية والتيّارات الحزبية، ولا تضاهي الاضطراب السياسي الشامل سوى الفوضى العسكرية المنطوية على كلّ المخاطر.

وهكذا فإنّ الأسئلة القديمة واصلت إعادة إنتاج نفسها تباعا، وكأننا أخذنا نعيش مرحلة ما بعد انسحاب الاتحاد السوفييتي وسقوط نظام نجيب الله: إذْ تفشل معظم المجموعات القبائلية والإثنية في الارتقاء إلى مستوى الحدث ومسؤولياته، هل ستواجه البلاد مخاطر انقسام الأمر الواقع، وفق خطوط إثنية ومذهبية وقبائلية تُجهز على ما تبقّى من وحدة اجتماعية ـ سياسية في طول البلاد وعرضها؟ هل ستبادر أية قوّة إقليمية (الباكستان؟ إيران؟ روسيا؟) إلى "لَبنَنة" أفغانستان، أو ربما "عرقَنة" البلد نسبة إلى العراق، أو حتى "سَوْرَنته" قياسا على تقاسم سوريا الراهن؟ وكيف يمكن للانشطار السنّي ـ الشيعي أن يؤثّر على العلاقات الإيرانية – الباكستانية خصوصا؟ وأين ستقف الولايات المتحدة والقوى الغربية عموما من مسألة تقسيم، واقتسام، النفوذ الإقليمي بين روسيا والصين والباكستان وإيران والهند والجمهوريات الإسلامية المجاورة؟

كلّ هذا بمعزل عن طائفة الأسئلة الحارقة التي تواصل استعادتها، أو إنتاجها وإعادة إنتاجها، الظواهرُ التي يشير إليها مير وكلارك في مقالة "فوريين أفيرز"؛ أو المعطيات التي تتمخض عن جولات التفاوض بين الإدارة الأمريكية والطالبان، أو تلك التي تظل ولادتها عسيرة؛ أو المهازل الانتخابية التي أفرزت رئيسين، يزعم كلاهما أنه الشرعي؛ أو الوقائع الدامية المتكررة التي تودي بالعشرات من الأبرياء، مثل محاولة اغتيال أمر الله صالح النائب الأول للرئيس… ثمّ، في العودة إلى "الأصول" خلف ذرائع تلك الصناعة الجهادية الأمريكية، وعلى ضوء جلسات التفاوض الطالبانية – الأمريكية: أين البلاغة/ الجعجعة حول إشعال حروب الديمقراطية وحقوق الإنسان والتقدّم و"القِيَم الحضارية" بالنيابة عن أبناء البلد الأفغان والعالم بأسره؟

وأين الحرّية، موضوع تفاخر كوندوليزا رايس وزلماي خليلزاد ورهط المحافظين الجدد هنا وهناك في الثقافة السياسية الغربية، وليس في أمريكا وحدها؟ وإذا كانت رايس قد غادرت السياسة إلى سلّة مهملات التاريخ، فماذا يفعل خليلزاد اليوم سوى إعادة تجميل الطالبان، كي يُقال إنّ سيّده الذي في المكتب البيضاوي حقق الانتصار؟ وإذا كان أمراء الحرب المسيطرون على البرلمان الأفغاني لا يختلفون البتة حول مسؤولية وأد الحريات، على قلّتها وضآلتها، بل يتفاخرون بنسبها إلى أنفسهم؟ وإذا كانت ذروة أعمال البرلمان هي التنمّر على النائبة مالالاي جويا التي تفضح الأمراء أولئك، فيجمد أشاوس البرلمان عضويتها، ويطلقون عليها صفات تتراوح بين "الكافرة" و"الشيوعية" و"العاهرة"؟

وفي سنة 1985 أنجز فرنسيس فوكوياما، دون سواه، ورقة تحليلية بعنوان "الدول الماركسية ـ اللينينية الجديدة والصراع الداخلي في العالم الثالث" اعتبرتْ أنّ أفغانستان هي البؤرة الأهمّ بين جميع المراكز المناهضة للشيوعية (أو "حركات التحرّر الوطني" كما استطاب له وصفها). لكنّه اعترف بأنّ البلد يتّسم بشخصية إسلامية شديدة المحافظة، "في عالم يشهد صحوة إسلامية لا سابقة لها". فماذا حدث؟ "حركة التحرر الوطني" تلك أحرزت "الانتصار" بعدئذ، وسقطت العاصمة كابول وسط هتافات "المجاهدين" وغبطة ضبّاط المخابرات المركزية الأمريكية وضبّاط المخابرات الباكستانية وربما ضبّاط الجيش الأحمر أنفسهم أيضا.

ولكن… بين الجموع المغتبطة كان ثمة أمثال "مجاهد" محترف، يدعى أسامة بن لادن؛ وأمثال طالباني عتيق عريق متشدد، يدعى الملا عمر؛ وعشرات النماذج التي سوف تهيمن على صناعة أخرى أمريكية بامتياز أيضا، هي "الحرب على الإرهاب". آنذاك لم يكن التاريخ قد انتهى تماما في نظر فوكوياما، ولهذا فقد كان من الطبيعي أن تكون أفغانستان بلدا إسلاميا محافظا ومتخلفا، من جهة أولى؛ وأن تكون "حركة تحرر وطني" من جهة ثانية، من دون أدنى تناقض أو تعارض أو تنافر! كذلك كان طبيعيا تماما أن يكون رجل مثل بن لادن، أو أستاذه ومعلّمه الروحي عبد الله عزام، أو سائر "الأفغان العرب" في عداد أبطال حركة التحرّر الوطني الذين تعتدّ بهم الولايات المتحدة، وتمتدح ما قدّموه من خدمات ضدّ الشيوعية.

الأبطال هؤلاء صاروا، كما هو معلوم، أهداف الحرب الشاملة التي تشنّها الولايات المتحدة في أفغانستان، وفي العراق، وفي اليمن، وفي سوريا، وفي الصومال، وفي كينيا، و… في مشارق الأرض ومغاربها! وقبل أسابيع قليلة، في حوار مع "فوكس نيوز" المقربة من الإدارة، تفاخر وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بأنّ "القاعدة اليوم هي ظلّ لنفسها السابقة"؛ متناسيا، عن سابق عمد بالطبع، أنّ هذا الظلّ لا يتقلص أو ينكمش بقدر ما يتوالد ويترامى؛ كما يجثم على طاولة التفاوض الأمريكية ـ الطالبانية، ذاتها، شاء البيت الأبيض أم أبى.


 

(القدس العربي)

التعليقات (0)