هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
"الكارثة التي أصابت اللبنانيين في الصميم (..) حصلت نتيجة فساد مزمن
في السياسة والإدارة والدولة".. هكذا قال حسان دياب في خطاب استقالته أمس
الأول محمّلا مسؤولية هذه الكارثة لما وصفه بـ"منظومة الفساد" التي قال
إنها "متجذّرة في كل مفاصل الدولة" بل إنها "أكبر من الدولة، وأن
الدولة مكبّلة بهذه المنظومة ولا تستطيع مواجهتها أو التخلّص منها".
قد تكون هذه الفقرة هي أخطر ما قيل في الخطاب
لكن المشكلة أن دياب، وهو يعلن اعترافا بهذه الخطورة، لم يحدد من يتحمل مسؤولية
ذلك بالضبط خاصة وأنها ليست المرة الأولى التي يخاطب فيها الشعب اللبناني موجها
اتهامات خطيرة دون تسمية الجهات التي يتحدّث عنها.
هذا الإغفال جعل بعض المحللين اللبنانيين
يفسرون الأمر على أنه مجرد كلام لصرف الأنظار عن فشل الحكومة، من خلال وضع اللوم
على الآخرين بالفساد والعرقلة، معتبرين ما ورد في خطاب الاستقالة كلاما خطابيا غير
عملي، لأنّه لا يُطلع اللبنانيين على حقائق أو وقائع ملموسة.
هذا الأسلوب من رئيس الحكومة اللبنانية
المستقيل يُذكّر بما دأب عليه الرئيس التونسي قيس سعيد في الفترة الأخيرة من إطلاق
هذا النوع من الاتهامات، دون أن يشير هو الآخر بالاسم لأي كان، بل الأدهى في
الحالة التونسية أن الرئيس يتوجه إلى الشعب ويقول له أنتم تعرفونهم في حين أن
الشعب حائر لأنه باختصار لا يعرف!!
هذا الغموض عندما يأتي من مسؤولين كبار في
الدولة لا يمكن أن يعني، في الحالة اللبنانية، سوى أن الرجل يتستر على الفاسدين أو
يخاف منهم بإغراق الكلام عنهم في عموميات واسعة تجعل أي واحد يشعر أنه لا يقصده هو
وإنما غيره، أو حتى إن قصده فلا ضرر من ذلك طالما أنه لم يشر إليه صراحة بالاسم. أما
في الحالة التونسية فهو يزيد المواطنين حيرة على حيرة ويفتح باب التأويلات
والتكهنات، خاصة وأن الرئيس سعيّد يبدو كمن أدمن هذا النوع من الإشارات الغامضة
رغم اختلاف المناسبات والسياقات حتى بات صياغة (.. واتهم الرئيس أطرافا لم يسمّها)
مُلازمة لكل تصريح يدلي به!!
إن غول الفساد، وقد أوصل لبنان إلى انفجار
الأسبوع الماضي الكارثي، يمكن أن يفعل في تونس ما لا يمكن تصوره حاليا لأن الفساد
في لبنان، وإن تجسد في رموز طائفية ووزراء ونواب معروفين لم تلحقهم جميعا أية
محاسبة أو عقاب، فإنه في تونس يزحف تدريجيا بخبث كالسرطان فيستشري في كل مكان من
جسم مريض بلا وعي أو إدراك منه، مع أن الطبيب قد يكون على دراية بالحالة لكنه لم
يصارح بها المريض بعد، وهذا تقصير قاتل.
في لبنان فساد متعدد الطائف، كل طائفة تحمي
فاسديها بدعوى أن الطوائف الأخرى ليست أقل فسادا وأن المحاسبة إما أن تشمل الجميع
أو فلن تكون أبدا، مما كرّس في النهاية ثقافة الإفلات من العقاب على مرأى من
الجميع ورغم أنف الجميع. وحين يتداخل الفساد في لبنان بغطاء سياسي من هذا الطرف أو
ذاك أوحين يتدثر هذا الفساد بشعارات كبرى عن مقاومة إسرائيل والتصدّي للمؤامرات،
كما يفعل «حزب الله»، فإن الأمور لا يمكن إلا أن تزداد سوءا.
في تونس، وقبل أربع سنوات تقريبا، قال رئيس
الحكومة التونسية آنذاك الحبيب الصيد كلاما مماثلا لما قاله حسان دياب حين حذّر من
أن «محاربة الإرهاب ربما تكون أسهل من مكافحة الفساد لأن الفساد تغلغل في كيان
الوطن ومحاربته تتطلب مثابرة وطول نفس ومتابعة». وفي نفس الفترة، قال شوقي الطبيب
رئيس «الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد» إنه «ليس هناك أي قطاع أو مؤسسة أو جهة
مهنية لم يمسّها الفساد، فهناك قضاة فاسدون ومحامون فاسدون وإعلاميون وساسة في
الحكم فاسدون» قبل أن يقول في ما يشبه الصفعة إن «الفساد طال جميع أوجه الحياة
العامة في تونس».
جاء بعد الحبيب الصيد كل من يوسف الشاهد ثم إلياس
الفخفاخ، ومعهما استمر الكلام الهلامي عن مقاومة الفساد، حتى استقال الفخفاخ نفسه
بشبهات فساد الله وحده يعلم ما إذا كان القضاء سيواصل النظر فيها أم لا، تماما كما
فعل مع نبيل القروي المرشح الرئاسي السابق وزعيم حزب «قلب تونس» الذي لم نعد نسمع
شيئا عن قضيته وهل هو بريء أم مُدان!!
ما يشترك فيه كل من لبنان وتونس هو حرية الرأي
والتعبير والديمقراطية والانتخابات الحرة، مما يدل على أن الفساد ليس مرتبطا آليا
وبالضرورة بالاستبداد السياسي بدليل أن الفساد في تونس ازداد أضعافا مضاعفة عما
كان عليه زمن الراحل بن علي. هذا يعني أن الفساد يمكن أن يستمر ويستفحل والقوم في
كلا البلدين ينددان به ويشهّران في كل محفل إعلامي أو سياسي ولكن بدون نتيجة
ملموسة.
خالص الأماني للبنان بالخروج من آثار هذه
الفاجعة، وكل الأماني لتونس بالمسارعة في حل «أحجية» الفساد قبل أن تحل بها كارثة
لا سمح الله.