مقالات مختارة

معالم مشروع تحالف قوى الثورة المضادة

سعيد الشهابي
1300x600
1300x600

لعل من أهم الظواهر التي أعقبت إجهاض ثورات الربيع العربي في العام 2011 بروز تحالف «قوى الثورة المضادة» الذي كان خلال السنوات العشر الأخيرة الأكثر فعلا وأثرا في منطقة الشرق الأوسط. هذا التحالف يضم كلا من السعودية والإمارات ومصر والبحرين بالإضافة لـ «إسرائيل».


وبعد قراءة ملفات الربيع العربي أصبح لهذا التحالف أهداف واضحة بعد أن تمكن من تحقيق هدفه الأول بإجهاض كافة الثورات المذكورة. وعندما اطمأن التحالف لذلك بادر لإزالة الآثار التي ترتبت على ثورات الشعوب وسعى لاقتلاع أفكار «الثورة» و«التغيير» وتهميش قيم «الديمقراطية» و«حقوق الإنسان» و«تداول السلطة» وسواها من مصطلحات التطور السياسي الحديث الآخذ بالأفول.

 

وباختصار تتمثل أهداف هذا التحالف بما يلي: إعادة تشكيل التوازن السياسي والعسكري في المنطقة ليبقى التحالف مهيمنا بشكل مطلق، اقتلاع ما اصطلح على تسميته «الإسلام السياسي» وتجلياته السنية والشيعية، استهداف إيران التي تعتبر التجلي الأوضح للإسلام السياسي خصوصا مع استمرار سياساتها الرافضة للاعتراف بالكيان الإسرائيلي، وفرض التطبيع مع «إسرائيل» على الحكومات والشعوب العربية.


هذه الأهداف مدعومة من التحالف الإنكلو ـ أمريكي، وتموّل من قبل التحالف السعودي ـ الإماراتي.

 

ولكن فات هذا التحالف تطورات لاحقة لم تكن بالحسبان، أوضحها بروز الدور التركي وتمدد علاقاته الإقليمية مع كل من إيران والعراق وقطر. ويمكن طرح قراءة أخرى لما يحدث من تطورات في العديد من الدول العربية في الوقت الحاضر التي يمكن تصنيفها ضمن أهداف مشروع قوى الثورة المضادة. وبرغم أن هذا المقال لن يتطرق للمحاولة الانقلابية الفاشلة التي حدثت ضد الحكومة التركية في صيف 2016 إلا أنها تمثل صفحة أخرى من مشروع قوى الثورة المضادة.


الانقلاب العسكري الذي حدث في السودان العام الماضي لا يختلف في طريقة إخراجه كثيرا عن الانقلاب العسكري في مصر في العام 2013. كلاهما سبقته «تظاهرات» و«احتجاجات»، ومهدت لتدخل العسكر للإطاحة بالرئيس.


في الحالة الأولى تم إسقاط الدكتور محمد مرسي واعتقاله حتى وفاته عام 2019. وفي الثانية أسقط عمر البشير واعتقل، وهو مهدد بالتسليم لمحكمة الجنايات الدولية. وفي ليبيا ما تزال محاولات الانقلاب العسكري على الحكومة المعترف بها دوليا في بنغازي تراوح مكانها ولم تستطع إسقاط حكومة فائز السراج حتى الآن. الأمر المؤكد أن قوى خارجية كانت وراء تلك الانقلابات. هذه القوى تقف وراء محاولات أخرى ما تزال في طور التمهيد. ففي لبنان تتواصل محاولات الانقلاب على الوضع السياسي، ومن المؤكد وجود قوى خارجية تدعم محاولات تغيير الوضع برمته. أما الحراك الميداني فإنما حدث بعد تمهيد الأرضية له بمحاصرة لبنان اقتصاديا لإيجاد الدافع الفاعل للتحرك. فالبشر إنما تحرك الكثير منه حاجته المادية وليس المبادئ أو القيم.


الحديث هنا ليس عن مدى وجود أرضيات للاضطراب السياسي، بل عن القوى التي تمارس أدوارا عديدة إما بتهيئة مناخ الاحتجاج أو تأجيجه إعلاميا بعد انطلاقه أو توجيهه باتجاه مختلف عن أهداف المحتجين. الأمر المؤكد وجود أرضيات صالحة للتحرك والاحتجاج في اغلب بلدان العالم، خصوصا العالم العربي.


فهل هناك حكومة لا تواجه معارضة من الداخل لسياساتها خصوصا الاقتصادية؟ ولكن يبقى الأمر ضمن الاحتجاج المدني السلمي الذي يسعى للإصلاح وليس لإسقاط النظام. المشكلة في بلداننا مركبة، فالنظام في الأعم الأغلب أولا: لا يتمتع بدعم شعبي لأنه لم يأت بإرادة شعبية، وثانيا: سياساته عاجزة عن تهيئة الحياة الكريمة للمواطنين. من هنا فاذا أرادت قوى خارجية استهداف أحد هذه الأنظمة فلن تعدم الوسيلة لتحريك الوضع ضده.


وما حدث في العراق يمكن تصنيفه في هذه الخانة أيضا. فهناك فساد سياسي ومالي، وغياب للخدمات العامة، وتبديد للمال العام، وتمايزات دينية ومذهبية، لذلك يمكن تحريك الأوضاع ضد نظامه بسهولة. لقد استهدف العراق من قبل بالتطرف والإرهاب والطائفية، ولكنه استطاع التغلب عليها جميعا، وبقي جامعا لكافة مكوناته بإرادة مواطنيه الحرة. ولما تراجع الإرهاب وتم القضاء على المجموعات المسلحة خصوصا داعش، بدأ مسلسل آخر. هذه المرة سهلت الحكومة السابقة تلك المهمة بقرارها تطبيع العلاقات مع كل من السعودية والإمارات. فتدفقت الأموال التي ساهمت في تحريك الوضع ضد النظام.


في المرة الأولى كان العنف منطلقا من المناطق «السنية»، لكن الحراك السياسي الأخير انطلق من المناطق «الشيعية». إنها صورة أخرى لما جرى في مصر والسودان وليبيا. المستهدف في هذه الحالات جميعا أمران: الأول تجليات ما يسمى «الإسلام السياسي»، والثاني استئصال حالة الرفض للكيان الإسرائيلي من الوجدان العربي والإسلامي. في الحالات الأولى كان الهدف يتمثل أساسا بجماعة الإخوان المسلمين. فقد أسقط حكمها في مصر والسودان وأصبحت مستهدفة في ليبيا. وصاحب ذلك مشروع إعلامي واسع يهدف لشيطنة الجماعة واعتبارها عدوة للتمدن والتعددية الدينية وحقوق المرأة ومنطلقا للعنف الذي مارسته التنظيمات المتطرفة.


أما الحديث عن اليمن فلا ينفصل عن السياق المذكور. كان واضحا عندما شن التحالف السعودي ـ الإماراتي حربه على اليمن عام 2015 أن لديه أهدافا عديدة: أولها تكريس هيمنة التحالف المذكور على اليمن من خلال ما سمي «المبادرة الخليجية» التي جاءت بعبد ربه منصور هادي إلى الرئاسة بدلا من علي عبد الله صالح. فثورة اليمن التي كانت ضمن الربيع العربي تعرضت للإجهاض بحصر نتائجها بإزاحة الرئيس واستبداله بنائبه، على غرار ما حدث في تونس ومصر اللتين حصر التغيير فيهما بإزاحة رأس الدولة. هذه الحرب لم تحقق أهدافها ولكن يجب استيعابها ضمن خطط قوى الثورة المضادة الساعية لاستئصال كافة تجليات المشروع الإسلامي السياسي.


ان من الخطأ الكبير التطرق لما يجري في البلدان العربية بانفصال عن بعضها. فهذا يمنع استيعاب المشهد السياسي كاملا، ويحجب صورة مشروع تحالف قوى الثورة المضادة الذي يتم تنفيذه بدقة على كافة الصعدان، ولن يمكن استيعاب ما يحدث في هذه البلدان، خصوصا في الأراضي المحتلة بشكل واقعي. فهل يعقل أن تتلاشى إرادة أمة العرب والمسلمين إلى هذا المستوى؟


تلك الأمة التي صمدت سبعين عاما بوجه الاحتلال وأجبرت العالم على مقاطعته وعدم الاعتراف به عقودا، هل يمكن أن تصمت بهذا الشكل القاتل على نقل سفارة أمريكا وغيرها إلى القدس بدون ردة فعل شعبية كما اعتادت فعله من قبل؟


هل يمكن تصور ترك الفلسطينيين وحيدين في ميدان التصدي للاحتلال، ويتم التطبيع العلني مع حكومته حتى بعد أن قررت ضم أراضي الضفة الغربية والجولان لكيان الاحتلال؟


لم يحدث ذلك إلا بعد حقن شعوب الأمة بأمصال التخدير القاتلة في غياب قادتها الشعبيين في القبور أو وراء القضبان. لقد استخدمت كافة الوسائل القذرة لإيصال العرب والمسلمين إلى هذا الوضع الذي جعلهم يعيشون على هامش التاريخ، ومنها التطرف والإرهاب والطائفية، وكلها أساليب استطاعت نخر الأمة من داخلها ونقل صراعاتها من الخارج إلى الداخل.

(القدس العربي)

0
التعليقات (0)