هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
«يجوز أنه وغد، ولكنه وغدنا نحن» أي يعمل لمصلحتنا.
كلماتٌ كتلك ذاعت ونُسبت لهنري كيسنجر، واصفا أو موصّفا الديكتاتور التشيلي
الأسبق آوغوستو بينوشيه، والحقيقة أنها تلائم ما تكوَّن لدينا من صورةٍ ذهنية عنه،
عن قسوته وحساباته الباردة، التي لا تقيم وزنا سوى للمصالح الأمريكية، ولا تكترث
مطلقا بالحياة البشرية.
حضرني هذا التعليق من بقايا الأفكار والكلمات الشهيرة، وكسرها المتكومة في الذاكرة
لدى متابعتي لتطورات الشأن الليبي و«نجومها» الأبرز، وعلى رأسهم بالطبع الجنرال
السبعيني المتقاعد، غير المتقاعد تماما خليفة حفتر، وإذ عسست وراء دقة المصدر، اكتشفت أن روزفلت أيضا أطلق تعليقا يكاد أن يكون مطابقا عن أنستازيو سوموزا
ديكتاتور نيكاراغوا حينها. فالحكاية قديمة إذن.
أفقنا في بدايات الشهر الحالي على تقهقر الجنرال السبعيني، أمام القوات التابعة
لحكومة الوفاق الوطني، وانكفائه نحو قواعده في شرق ليبيا بعد قرابة الأربعة عشر
شهرا، هي عمر حملته للسيطرة على طرابلس العاصمة و«تطهيرها» من المليشيات
المناوئة، ومن ثم هرع إلى القاهرة، لتعقب ذلك جملة من التحركات السياسية للسيطرة
على الموقف المتردي (من وجهة نظر القاهرة وداعميها)، بلغت ذروتها بزيارة السيسي
للمنطقة الغربية العسكرية، حيث صرح بأن «سرت والجفرة» خطٌ أحمر، مؤكدا ضرورة
جاهزية القوات المصرية للقتال. وكما هي العادة في القضايا والنزاعات التي تطول
بدون حسمٍ، ولا أحداثٍ ساخنة، ومع إضافة عامل السأم البشري، وقصر عمر المقدرة على
التركيز، فهي تظل تنضج على نارٍ هادئةٍ، في خلفية المشهد السياسي؛ قلةٌ هم الذين
يشغلون أنفسهم بتتبعها، وغالبا ما يكون ذلك بحكم التقسيم والمهام الوظيفية،
كمتخصصي ومسؤولي الملفات في وزارات الخارجية، وبعض الباحثين المتخصصين، ثم لا تلبث
أن تشتعل أو تنفجر، فتغدو بؤرة الاهتمام مرة أخرى كما هو متوقع، ومن ثم يتصدى لها
المعلقون والصحفيون و«الخبراء الاستراتيجيون» (تلك الفصيلة المريبة مشبوهة المنشأ
في أحيان كثيرة) وتغدو حديث العامة. بيد أن المشكلة تكمن في أن أولئك الذين لا
توقظهم إلا الأحداث، ينطلقون من حيث انتهوا قبل أعوام، من انطباعاتٍ وتصوراتٍ
توقفوا عندها، والأخطر من ذلك، وفق سرديةٍ تشكلت ببطءٍ في الخلفية لتعبر عن وجهة
نظر النظام، أو المعسكر الذي ينتمون إليه، بدون فحصٍ دقيقٍ للمستجدات أو تمحيصٍ
ناقدٍ للدعاوى.
وفقا لرؤيةٍ بسيطة ولتلك السردية، فإن حكومة الوفاق الوطني مدعومة من محور تركيا
– قطر ويغلب عليها من ثم الانحياز للإسلام السياسي، في مقابل حفتر المدني النزعة
المعادي للإسلاميين، والمدعوم من ثم من محور مصر- الإمارات- السعودية الإقليمي ومن
فرنسا وروسيا. لكن النظر لأبعد قليلا يكشف لنا عن صورةٍ أعقد من ذلك بكثير،
فالجنرال السبعيني، لم يخيب ظن عارفيه ومتابعيه منذ الثمانينيات، حيث لم يزل يكلل
مساعيه بالفشل، ولم يفلح سوى في الخيبة، مذ قاد قواتٍ ليبية في تشاد فانهزم، ولم
يلبث أن ارتحل إلى أمريكا ليعمل مع (أولدى) وكالة الاستخبارات المركزية، وقد
استُحضر من على الرف أو الثلاجة، حيث بقي مكدسا فترة طويلة ليشكل ذلك الجيش
المدعو وطنيا، واتساقا مع ذاته وسيرته غير العطرة، فقد استغرق ما يربو على السنة،
ليصل إلى طرابلس، في حملة زُعم أنها ستكون سريعة وخاطفة، وها هي النتيجة؛ ليس ذلك
فحسب، بل إن معاني الفشل الأعمق للترسخ إذ نأخذ بعين الاعتبار ما أُغدق عليه من
دعمٍ مالي وتسليحي ولوجستي، من الإمارات والسعودية ومصر وفرنسا، حتى روسيا
بمرتزقة فاغنر ضمن دورٍمعقد، تؤدي فيه الأخيرة على طرفي النزاع لتمسك بكل الأوراق
في يدها، بما يمكنها في النهاية من تعظيم حصتها وحجم مكاسبها.
وبعيدا أيضا عن أي أوهام حداثية أو مدنية، فقد شكّل تحالفات مع القبائل مؤلبا بعضها على بعض، والأخطر من ذلك أن قواته تلك التي يحظى ولداه غير المؤهلين عسكريا فيها بقيادات، وقوات أفضل تسليحا، تحتوي عناصر سلفية وجهادية مناوئة لتلك التي
تنتظم مع وتدعم تحالف السراج، وحكومة الوفاق الوطني، وهو يرى الدستور «مجرد كلام»،
بالإضافة إلى توفر شواهد عديدة وموثقة على جرائم وفظاعات ارتكبتها قواته في
حملتها.
في مقابل ذلك، فحكومة السراج «المعترف بها دوليا» قلما تجد من يشكر فيها وعبثا تصل إلى كيف برز السراج؟ وكيف اعتُرف بها حين ترى فرنسا والولايات المتحدة، على
سبيل المثال لا الحصر، تتواصلان عن كثب وتدعمان حفتر بصور متباينة، كما أنها
أثبتت ضعفها وانعدام كفاءتها، ناهيك من استمرار الحضور القوي للمليشيات بشبكاتها
ومصالحها، ودخلت على الخط تركيا، تنشد مكاسب وحصة من كعكة النفط والغاز، كالباقين
تماما. الغائب الأكبر في كل تلك الحسابات لمن يلاحظ هو الشعب الليبي، فالكل وعلى
رأسهم السيسي بذهنه الدولتي، يتحدثون عن ليبيا، كما لو كانت مساحة من الأرض،
تصادف أن وُجد عليها ناس وتمر بها الآن قبائل، فيها مدن ومليشيات. والحقيقة أن
الذنب في ذلك والمسؤولية الأولى والكبرى تقع على عاتق القذافي ونظامه، الذي جمع
بين العجب والبشاعة، إذ إن طبعته المتطرفة من التسلط العربي متلخصا في القمع
وتجريف الحياة السياسية، لم يقف عند القوات المسلحة، كما فعل غيره في مصر وسوريا،
على سبيل المثال، بل همش كل مؤسسات الدولة، بما فيها الجيش، وهلهلها لتبقى منها
أشباهٌ هلامية، معتمدا على أبنائه وأجهزة أمن تدعمها ولاءاتٌ قبائلية تنتمي إلى
ما قبل الدولة الحديثة، فإذ سقط، انفرطت الخيوط وفشل ما تبقى من شبه الدولة
الغرائبية تلك. والآن نرى أن كمّا لا بأس به ولا يستهان من المليشيات المتحالفة
مع تكوينات قبلية، لها مصلحةٌ مباشرة في استمرار الوضع على ما هو عليه.
مستنقعٌ ورمالٌ متحركة، هذا هو الشأن الليبي الآن، وأشك بشدة في أن أي تدخل عسكري خارجي سافر، قادرٌ على حله، وهو واقعٌ ليس فيه ملائكة ولا أبطال، ليس فيه
قوى خيرٍ وشر، بل الخيار بين السيئ والأسوأ (بالطبع كلٌ وفقا لانحيازاته).
لم يراهن السيسي وداعموه على حفتر، لأنه أرفع مكانة أو أسمى
أخلاقا، أو يعد بالحريات السياسية والمدنية، ولكن أولا لأنه سلطويٌ عسكري، قادرٌ
على إعادة إنتاج النظام تحت إمرة وسيطرة الجيش وأجهزة الأمن، وثانيا مناكفة لتركيا وحرصا على مكاسب أكثر.
هذه الأيام، وعقب تصريح السيسي عن «الخط الأحمر»، صرنا نقرأ ونسمع تقارير عن تصنيف
الجيش المصري التاسع أو العاشر على مستوى العالم، وعن حجم قواته وتسليحه المتطور،
وليس يخفى ما يتعرض له السيسي من ضغطٍ للتدخل عسكريا، ومع تفهمي التام للمصالح
الحيوية والاستراتيجية والتاريخية، التي تربط مصر ببلدٍ مجاورٍ بحجم ليبيا، فإن
الأيام والتجارب والقراءة أورثتني جميعاً شكاً وتخوفاً من الحماسات التي تعقبها
بصورةٍ شبه دائمة، الحماقات والخسائر، خاصةً أنني عشت أجواءً مشابهة حين دخل صدام
حسين الكويت وما قيل عن الجيش العراقي حينها.
بغض النظر عن تقييمي (السلبي في المجمل) للسيسي، فقد برهن في السابق عن حرص وإحجام عن التورط في مغامرات عسكرية خارج مصر، رغم الضغط (اليمن مثالا)، ربما
لأنه يدرك طبيعة الوضع الاقتصادي الحرج، إن لم نقل المتردي لمصر، ويعرف جيدا أن
الإهانات العسكرية تتبعها كوارث سياسية، لا يستطيع بوضعه الانقلابي الهشّ تحملها.
لكنه الآن ربما تستبد به الرغبة في إحراز انتصارٍ سريع للإلهاء عن الوضع الداخلي
وسد النهضة، ومن يدري فقد يكون هناك مقابل مادي وتسهيلات اقتصادية من الإمارات والسعودية، تدفعه للتدخل؛ الأكيد في مثل تلك الحروب، أنك تستطيع بقدر ما
أرحب من الحرية أن تتخذ قرار التدخل، ثم إذا بك تفقد زمام السيطرة وتنزلق، وتتورط.
إن الشأن الليبي أكبر من أن يترك لمصر أن تحله أو تتسيد فيه، فاللاعبون الكبار،
الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وبريطانيا، على سبيل المثال لا الحصر، لهم مصالح مباشرة،
وجل ما أتمناه هو ألا تستخف أوهام «القوة الإقليمية العظمى» بالسيسي ومناصريه،
ومن ثم يختمون ما بدأ برهان خاسر على حصان عجوز وكسيح، بتورط عسكري بري
ينغرسون به في هذا المستنقع. لكن للأسف، فثمة مؤشرات عديدة تؤكد أن هذا التدخل
بات وشيكا، وربما أقرب مما نتصور أو نتمنى.
(القدس العربي)