قبل أيام قليلة نشرت الشابة الفلسطينية يارا مقطع فيديو قصيرا لجدها الشيخ الكبير خليل إبراهيم "أبو عوني" وهو يستمع إلى مقطع من أغنية "على الله تعود بهجتنا والأفراح تُغمر دارنا"، وقد فاضت عيناه بدموع الحنين إلى قريته برير وتفجرت في عيونه أشواق ممتدة منذ 72 عاما.
بعد يوم واحد من نشر
هذا الفيديو توفي الشيخ أبو عوني ورحل إلى الله، ممتلئاً بأنين مكتوم كان يجتمع في صدره عبر السنين ويتعاظم كلما حال الحول، فزاد البعد سنةً ونقص العمر سنةً.
قدَّر الله أن يتسرب نزر يسير من أنينه المكتوم في اليوم الأخير من حياته الطويلة التي بلغت مئة سنة إلا ستة أعوام، بواسطة حفيدته الصغيرة التي تنتمي إلى جيل التكنولوجيا، لعلها رسالة إلى الجيل الجديد ألا ينسى الحلم وأن يقاوم انحسار الذاكرة، وأن يستمد من معاناة الآباء والأجداد العزم بمواصلة الكفاح في سبيل تصويب الاختلال التاريخي الذي قاد إلى تهجير شعب كامل واستمرار معاناته عبر الأجيال، بعد أن جيء بمجموعات من شتات الأرض لتقتلع السكان الأصليين وتحل في بيوتهم وأراضيهم بالإكراه وقوة السلاح.
الحاج خليل هو واحد من حوالي 750 ألف فلسطيني هجروا قسراً من ديارهم عام 1948 تحت إرهاب العصابات الصهيونية، بعد أن دمرت هذه العصابات 531 مدينةً وقريةً فلسطينيةً، ونفذت أكثر من سبعين مذبحةً، وقتلت أكثر من 15 ألف فلسطيني، وهو ما وصفه المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه بالتطهير العرقي، ودلل عليه بوثائق من أرشيف ما سمي بعد ذلك بـ"دولة إسرائيل".
وقد اضطر الفلسطينيون العزّل إلى الفرار من آلة الموت الصهيونية في اتجاهات شتى، نحو قطاع غزة والضفة الغربية والأردن وسوريا ولبنان، وظنوا في ذلك الحين أن لجوءهم مسألة أيام قليلة أو أسابيع حتى تتمكن الجيوش العربية من هزيمة المعتدين، لكن تلك الجيوش لم تكن في مستوى تحدي اللحظة التاريخية، وأعلنت دولة الاحتلال استقلالها على أنقاض القرى المدمرة والبيوت المهجورة. وطال انتظار اللاجئين عاماً بعد عام وعشرةً بعد أخرى، حتى مات معظم شهود النكبة في ملجئهم الاضطراري، وكل واحد منهم يحبس في قلبه غصته وحكايته الخاصة من الألم والأنين والشوق والأمل.
في لقاء مع صحفي يهودي في مدينة نيويورك، سألني ثلاثة أسئلة: قال إن معظم اللاجئين الفلسطينيين قد ماتوا، ألا يعني هذا أنه يمكن تسوية الصراع في فلسطين؟ وقال إن ملامح الأرض قد تغيرت ولم تعد أملاك اللاجئين قائمةً، فأين سيعود اللاجئون؟ وقال إن إسرائيل هي حقيقة واقعة..
بذات منطق أن موت اللاجئين الفلسطينيين ينهي المشكلة، فإن إسرائيل تدّعي أن لها حقاً في الأرض يعود إلى آلاف السنين، فأي صلة تربط الصهاينة الذين قدموا من شتات الأرض بأفراد عاشوا في أرض فلسطين قبل آلاف السنين! وهل قرابة الصهاينة غير المؤكدة من أولئك اليهود قبل آلاف السنين أولى من قرابة ابن اللاجئ أو حفيده الذي عايشه في نفس البيت والمخيم، وورث عنه مفتاح الدار وطابو الأرض كما ورث عنه معاناة اللجوء وقصص الحنين؟
قضية اللاجئين الفلسطينيين ليست قضية أفراد وحسب، بل هي قضية شعب، والشعوب لا تموت بموت أفرادها، لأن كل جيل يورث الجيل الذي يخلفه ذات الشخصية وذات الرواية وذات الروح، والقول بموت قضية بمجرد موت شهودها الأوائل هو دعوة صريحة لكل دولة قوية لممارسة الظلم والعدوان على الضعفاء في الأرض، إذ يكفي مرور جيل أو جيلين يموت فيهما الشهود الأوائل، ليكتسب العدوان شرعيةً ولتمحى حقوق المظلومين لأنهم ماتوا!
إذاً لماذا لا تزال ألمانيا تدفع تعويضات لدولة الاحتلال على مذابح النازية إلى اليوم مع أن قادة ألمانيا المعاصرين لم يكونوا أحياءً في زمن تلك الفظائع؟ ولماذا تسعى الولايات المتحدة إلى إدانة تركيا بمذابح الأرمن رغم أن من اقترف تلك المذابح قد جرت عليهم سنّة الفناء؟!
والسؤال الثاني يحمل جوهر السؤال الأول، إذ هل طمس ملامح الأرض وإزالة أملاك اللاجئين مبرر كاف لنزع شرعية الحق من صاحبه؟! إن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم معلل بأنهم قد هجروا منها قسراً، وكل تغيير يطرأ في سنوات العدوان فإن المعتدي هو من يتحمل مسؤوليته وليس الضحية.
بل إن هناك بالإضافة إلى مبدئية هذا الحق، إمكانيةً واقعيةً لتنفيذ
حق العودة، إذ إن غالبية أراضي اللاجئين داخل فلسطين المحتلة لا تزال حتى اليوم فارغةً أو قليلة الكثافة السكانية، وفق دارسات مستفيضة أجراها المؤرخ الفلسطيني سلمان أبو ستة صاحب كتاب "العودة حق مقدس وقانوني وممكن"، وذلك بسبب تركز السكان الإسرائيليين في أقل من 20 في المئة من المساحة الجغرافية، ولو قرر خمسة ملايين يهودي حول العالم في أي لحظة أن يأتوا إلى المطارات الإسرائيلية ويطلبوا الإقامة فيها، هل ستتذرع حكومة الاحتلال وقتها بأنه لا توجد مساحة كافية لاستيعابهم؟!
إن الأرض تتسع لعودة كل اللاجئين الفلسطينيين، لكن سبب منعهم من العودة عنصري يتمثل في أنهم لم يولدوا لأب وأم يهوديين.
أما عن السؤال الثالث، فإن إسرائيل حقيقة واقعة، هذا حق، لكن وجود سبعة لاجئين فلسطينيين هو حقيقة واقعة أيضاً، وإن معاناة هؤلاء اللاجئين بسبب تهجير دولة الاحتلال لهم حقيقة واقعة، وإن إصرارهم على العودة هو حقيقة واقعة أيضاً، وما دامت هناك انتقائية في رؤية بعض الحقائق والتنكر لحقائق أخرى يدفع الملايين ثمنها دموعاً ودماءً منذ عقود طويلة فلن يكون هناك استقرار حقيقي.
الاستقرار لا يكون إلا بتحقيق العدل، والأمن لن يتحقق إلا برفع الظلم. لقد بنت دولة إسرائيل وجودها ورفاهية مواطنيها اليهود على حساب معاناة ملايين البشر الآخرين، لذلك فإنها لن تنعم بأمن حقيقي. وإن الأمن الذي يقوم على القوة وحدها هو أمن هش يؤجل انفجار المشكلة ولا يعالج جذورها.
لن تسمح دولة الاحتلال بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم إلا إن حدث انقلاب جذري في موازين القوى، لكن من الضروري إعطاء حق العودة مركزية الاهتمام في الكفاح الفلسطيني والرواية الفلسطينية، إذ إن وضوح هذه القضية وبساطتها يمثل إلهاماً وقوة جذب أخلاقي للمؤمنين بالحق والعدل في العالم.
حق العودة ليس قضية اللاجئين وحدهم، بل هي قضية أممية ينخرط فيها كل إنسان حر قرر أن يقف في الجانب الصحيح من التاريخ، وأن ينحاز إلى المستضعفين أصحاب الحق ضد الذين يمارسون الظلم والتهجير والإحلال والتمييز العنصري على الضعفاء في أي مكان.
twitter.com/aburtema