هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تسعون ألف سجين تم الافراج عنهم في تركيا بسبب جائحة الكورونا، هذا رقم ضخم جدا، ويعد الأكبر على مستوى العالم في هذا الوقت، فماذا يعني هذا الأمر؟
تركيا الآن في موقع مختلف عالميا، تمد جسورها نحو المستقبل بمكوناته المختلفة، الصناعية والإنسانية والسياسية والتربوية، وهذا الأمر يحتم عليها استكمال أدوات العالمية لتتوازن في النواحي كافة، ولتكتمل مقومات القدوة والزعامة، والأداة المهمة جدا هنا هي القانون، فلا يمكن التقدم في المجال التقني دون أن يضبط القانون حركة الصعود إلى القمة المستقبلية، وحركة الصعود لن تكون ثابتة إلا بثبات العلاقات الداخلية في الدولة، وأحد الأمور المهمة جدا لهذا الثبات هو العدالة الجنائية التي عادة ما تتم مراقبتها من الدول والمنظمات الدولية والأحزاب الداخلية، وتعد المصيدة الأولى لتوجيه السهام للنظام الحاكم.
اطلاق سراح هذا العدد الضخم يؤشر إلى مجموعة من الأمور، منها:
1- المخالفات الجنائية التي ارتكبها المفرج عنهم (جناية أو جنحة) لا تشكل خطرا كبيرا على المجتمع، خاصة في وقت الطوارئ، ومن باب أولى في وقت سير أمور الدولة الطبيعي.
2- كشف هذا الأمر عن نقص في التشريع الجنائي، بحيث كان يمكن إيجاد معالجات إجرائية جنائية بديلة أفضل.
3- وأيضا كشف عن تضخم في التشريع الجنائي، بحيث من الأفضل مستقبلا تدخل التشريع للتخفيف من حمل التجريم(الحد من التجريم)، وما يترتب على التضخم التشريعي من إجراءات مكلفة جدا.
4- ما زال الحق العام يشكل قبضة حديدية في المجال الجنائي كله، والمعروف أن هذه القبضة تكون قوية في بداية تشكل الدول وتثبيت نفسها، ثم تتراخى ليحل محلها توازن مصلحي مدروس بين الحق العام والحق الخاص، بل وجدت دول في كثير من القضايا الجنائية أن الحق الخاص يتفوق على الحق العام في هذا المجال فأبدعت في ابتداع أدوات عدالة جنائية تصالحية كالصلح الجنائي والتحكيم الجنائي والتوبة وغيرها للتخفيف من ويلات السجن.
5- غياب التطوير عن هذا المجال، حيث القوانين الموضوعية والإجرائية تتسم بالثبات، وهذا له تكلفة اقتصادية مرهقة جدا، اضافة إلى بعده الاعلامي السلبي.
6- افتقاد مشاركة مراكز الأبحاث الجنائية والأكاديمية في تقديم الحلول في هذا المجال بشكل فعال ومعمم، مثلا فهرسة المشاكل التي تواجه أجهزة العدالة من قبل القائمين على تطبيقها، وتقديم هذه المواضيع إلى الجامعات ليتم البحث عن حلول لها من خلال رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه وأبحاث المجلات، هذا على سبيل المثال، والأوجه البحثية كثيرة.
ولا ننسى هنا أن نضع في اعتبارنا أنه إذا لم يجد القائمون على العدالة الجنائية حلا لمعضلة (مثل تكدس السجون) فلا يعني استحالة الحل، بل الواجب طرحه على الآخرين، ومن المؤكد سنحصل على حلول لا تخطر بالبال، منتجة بشكل كبير وبتكلفة قليلة.
المطلوب في مرحلة ما بعد الكورونا:
لا بد من تعزيز الأمور التالية وبالسرعة الممكنة:
1- عدالة اقتصادية: مزعج جدا ومقلق التفكير بتكلفة السجين الواحد المالية وكم تدفع الدولة من ميزانيتها، منذ لحظة بداية البحث عن المتهم وصولا إلى تنفيذ الحكم؛ وكم تخصص من المال لأجهزة العدالة الجنائية ولأبنية السجون وغيرها.
إن التفكير في الاتجاه المضاد (التقليل من المساجين) يصبح ذا فائدة عظيمة، بل يحقق عدالة اقتصادية حين يتم صرف المبالغ الضخمة على تسيير المرافق العامة الأخرى في الدولة.
وفي الوقت ذاته، تعد طرق العدالة الأخرى طريقا اقتصاديا كبيرا يستفيد منه عدد كبير من القائمين عليه، وكذلك استفادة الدولة من الرسوم التي تفرضها في هذا المجال، إضافة إلى حياة السجين الاجتماعية التي ستكون مستقرة بشكل أكبر ومن يعولهم.
والعدالة الاقتصادية تبرز بشكل فعال في مرحلة التشريع، فمشروع القانون الأنسب هو المطلوب لا الأفضل إذا كان أكثر تكلفة، والأنسب هو الذي يؤدي الغرض بأقل تكلفة وأفضل طريقة وانتاجية؛ والمعادلة ليست صعبة إذا استشار المشرع (صانع التشريع) جهات ذات اختصاص، أو غير مختصة لكنها ذات فكر اقتصادي في مجال العدالة الإجرائية الجنائية.
2- عدالة شرعية: متابعة التشريع للتطور الحاصل في المجتمع على المستويين المادي والمعنوي، والاستفادة من التشريع في الدول الأخرى بما يتناسب مع البيئة الداخلية.
بل يمكن القول هنا أن الثقافة التركية يمكنها خلق أدوات جديدة في المعالجة الجنائية، سواء من التراث التركي المبني على التكاتف بين مكونات المجتمع، أم من الإسلام، وباجتماع الأمرين ستقدم تركيا في هذا المجال ما لم تقدمه الدول الأخرى، وستكشف عن وجه عدالة جنائية مشرقة تضع تركيا كدولة حيث تريد.
وقد شاهدنا خلال جائحة الكورونا تسابق أبناء تركيا والموجودين على أرضها في سد الخلل لدى العائلات المحتاجة، بكل شفافية وود وإيثار، وهذا مؤشر رائع على الحالة النفسية التي تسود المجتمع، ويمكن أن يبنى عليها الأمن الجنائي وصولا إلى عدالة جنائية مرغوبة.
3- عدالة تصالحية: معناها حل أي نزاع جنائي عن طريق التصالح، أيا كانت نوعيته أو طريقته، ما دام لا يخالف النظام العام، كالوساطة، التحكيم، التشاور، جمعيات مختصة، محامين معتمدين، مختار، ويمكن أن يكون لكاتب العدل (النوتر) دور بارز في هذا المجال، خاصة أنه منتشر بكثرة في تركيا، فقط يحتاج إلى تشريع يحدد الإجراءات، وخيارات هذه العدالة تعد وفق ما يرتضيه أطراف العلاقة الجنائية ضمن ضوابط القانون، وميزتها إنها تعمل على تصفية النفوس وتزيد التقارب الاجتماعي.
4- عدالة قضائية: الأمن القضائي حجر الأساس في تحقيق العدالة الجنائية، ودوره هنا غير تقليدي، بل إبداعي في التوفيق في حل المشكلات الجنائية منذ بدايتها، وإحالتها- وفق تشريع يتم إعداده- إلى جهات العدالة التصالحية.
هذا الأمر يتطلب تدريب القضاة على اجراءات جديدة، وتمليكهم قدرة على استشعار إمكانية أن يكون الحل التصالحي منتج، ولو بمساعدة مختص في هذا المجال (علم نفس جنائي مثلا لكشف الخطورة الاجرامية).
5- عدالة تنفيذية: تنفيذ الأحكام مرحلة كاشفة عن إمكانية تقليل مدة السجن وفق سلوكيات السجين بعد مراقبة مدروسة ودروس ممنهجة من الجهة المسؤولة.
معاملة السجين في مرحلة التنفيذ من شأنها المساهمة في تقويم النفس والسلوك.
6- عدالة مصلحية: موازنة دقيقة بين الحق العام في القضايا الجنائية وبين الحق الخاص، وتغليب الحق الخاص على العام في الغالبية العظمى للقضايا الجنائية التي تكون بين أطراف علاقاتهم خاصة.
7- عدالة ناجزة: العدالة البطيئة هي الظلم بعينه، لذلك حال التخفيف من أحمال القضايا الذي سيكون بتدخل التشريع في التخلي عن الكثير من الأفعال المجرمة وتبني تشريع يجد لها حلا آخر غير طريق القضاء المعتاد الموجود الآن، وسلوك البدائل في العدالة التصالحية، عندها ستتم المحاكمات بشكل سريع، ما يشعر المواطن بالأمان.
ختاما: تركيا المستقبل بحاجة ماسة إلى سياسة تشريعة خادمة للأمن الداخلي، ومفيدة للبشرية جمعاء، لتنبثق عنها سياسة جنائية مطورة منبثقة من واقع الدولة ومكوناتها الوجدانية والمادية، تجرم بقدر الضرورة، وتعاقب بقدر التعافي من الشر، وتترك الباب الواسع للصلح، وتكون جزءا مشرقا تقدمه للبشرية في مجال هذا النوع من العدالة.