هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
«لن يدوم أكثر من عشر سنين»، هذا ما قاله طلال أبوغزالة الأحد الماضي، على شاشة «بي بي سي» عربي وهو يتحدث عن مستقبل الاتحاد الأوروبي، ويبرر توقعه باندثاره خلال هذه المدة، بما كشفته أزمة كورونا من غياب تام لما وصفها بـ»اللحمة الحقيقية» بين دوله. لكن من باستطاعته الآن أن يتوقع، كما فعل رجل المال والأعمال الفلسطيني، أن يكون الشمال الأفريقي، رغم افتقاده للحد الأدنى من التضامن والتعاون والانسجام بين بلدانه، قادرا على التوحد في غضون تلك السنوات العشر؟ أليس ذلك شبه محال؟ لكن لم لا يكون تفكك شمال المتوسط، إن حصل بالطبع، فرصة لتجمع جنوبه وتكتله وبروزه على الساحة كطرف إقليمي له ثقله واعتباره؟
ربما لم يعد مطروحا منذ وقت طويل ومع تعاظم
الخوف من تفكك بعض الدول المغاربية، وتفاقم المشاكل، وحتى العداوات بينها، أن
يتصور أحد أن مسألة توحيد تلك الكيانات، أو التقريب بينها لن تكون مستعصية أو
مستحيلة. وقد يبدو الأمر عجيبا بعض الشيء. ولكن من قال إن عدم اتحاد تلك الدول حتى
الآن كان شرا محضا؟ ألم تفشل كل المحاولات الاتحادية في السابق، لأنها كانت مبنية
على أسس هشة ومغشوشة؟ ثم أليست هناك ثلاثة أسباب كبرى حالت دون ذلك، وهي بقاء
معضلة الصحراء معلقة منذ أكثر من أربعين عاما، ثم سقوط ليبيا في حرب أهلية
بالوكالة، جعلتها تقسم فعليا إلى ثلاثة أجزاء، وأخيرا عدم استعداد الأنظمة
السياسية بذل أي مسعى للوصول لذلك الهدف. لكن ألم يكن المشكل في الأصل، هو في تلك
الحدود الاستعمارية الموروثة؟ ربما سيقول البعض إن إثارة تلك المسألة يعني صب
الزيت على النار، والمس بالاستقرار الإقليمي، وهز الكيانات، وربما فتح الباب
لاضطرابات وثورات وجر الجميع إلى الهاوية.
ولعل آخرين سيجدون مبررا مشروعا لذلك، وقد
يقولون إن تصحيح الأخطاء سيكون أفضل ألف مرة من الاستمرار فيها. فالرجوع إلى الحق
فضيلة. ثم ألا يعود الجزء الكبير من عطب البناء المغاربي المشترك، إلى الحفاظ على
تلك الأخطاء، والإبقاء عليها، بحجة أن ليس بالإمكان أفضل مما كان، وأن الحدود
الموروثة عن الاستعمار يجب أن تظل مصانة ومقدسة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟
قبل أن تكون فرضية التوحيد واردة أو مستبعدة، فإن السؤال الأساسي هو، كيف ظهرت في
العصر الحديث تلك الدول المغاربية؟ ومن أي خميرة صنعت؟ وفقا لإرادة من؟ قد تدل تلك
العناصر على صلابة المنجز، أو على هشاشته وضعفه، وقد تكون وبالمثل مؤشرا على قدرة
الدول المغاربية على الحفاظ على تماسكها ووحدتها الداخلية قبل المرور إلى وحدة
إقليمية. ألا يقولون دائما أن البعرة تدل على البعير؟ لكن إن عدنا إلى الخلف فيبدو
أن العهد الذي كان فيه توحيد الشمال الأفريقي مطلبا واقعيا، وطبيعيا للقوى الوطنية
التي ناضلت في تونس والجزائر والمغرب مع بعضها بعضا لطرد المستعمر الفرنسي، صار الآن
بعيدا. فالواقع المغاربي بات على النقيض من ذلك العهد تماما.
من الواضح أن الانتقال من طور التفكير في
التجميع والتوحيد، إلى طور البحث عن تكريس الوضع القائم، وإبقائه على حاله، يبدو
معاكسا تماما للمسار الطبيعي لتاريخ المنطقة، على الأقل، فكيف حصل ذلك إذن؟ وما
الذي جعل الأمر يصبح بالأخير بنظر الشعوب قبل الحكام نوعا من اليوتوبيا
أوالفانتازيا غير القابلة للتحقيق؟ ثم ما الذي جعل قبل ذلك المغربي يصير مغربيا
فقط والتونسي تونسيا فحسب والجزائري جزائريا لا غير؟ أليس الاستعمار، من رسم كل
تلك الإحداثيات والفوارق والخطوط العبثية التي صارت حدودا قاطعة وحاسمة، تفصل بين
بعضهم بعضا، وتعيق وحدتهم واندماجهم؟ لقد ذكر الرئيس التونسي الراحل الحبيب
بورقيبة في خطاب شهير له، أوائل السبعينيات بقاعة البالماريوم بالعاصمة تونس،
وبحضور العقيد الراحل القذافي، كلاما قد يبدو الآن للكثيرين غريبا، بل ربما صاعقا
ومزلزلا.
فقد قال حينها: «لقد عشنا في نطاق الحدود جيلا بعد جيل. فالحدود التي بيننا وبين الجزائر، أو التي بيننا وبين ليبيا ليست حديثة من صنع الاستعمار الفرنسي، أو الاستعمار الإيطالي. وقصارى ما فعله الاستعمار الفرنسي أنه عندما وصل إلى الصحراء، أراد أن يأخذ جانبا من صحراء تونس وجانبا من صحراء المغرب ليضمهما إلى الجزائر، لأن الصحراء لم تكن لها قيمة عند البايات، أو عند حكام المغرب». ثم عاد إلى الوراء، أي إلى مرحلة ما قبل الاستعمار ليضيف، «أن المنطقة التي كانوا يسمونها أفريقيا في وقت الرومان وهي منطقة تونس حاليا، كانت عاصمتها إما القيروان أو المهدية أو تونس، وكانت تتسع رقعتها في بعض الأحيان حتى تصل لقسنطينة، أو تصل إلى جهة طرابلس، وقد أصبحت مدينة تونس عاصمة للقطر التونسي في عهد الحفصيين ومن قبلها كانت القيروان وكانت قرطاج من قبل أن تطأ بلادنا أقدام الرومان».
وربما لخصت تلك الفقرات جانبا كبيرا من طبيعة المشكل، لا بالنسبة لبلد صغير مثل تونس، بل حتى لباقي الدول المغاربية أيضا. غير أن النظر له لم يحصل دائما من الزاوية نفسها، بل بان جليا أن الموقف العلني لبورقيبة من مسألة الحدود، كشف عن داء مزمن بات ينخر أي كيان مغاربي مفترض، وهو الاختلال الكبير في موازين القوى، بوجود دول صغيرة وضعيفة مثل تونس وموريتانيا، وأخرى كبيرة ديمغرافيا وقوية عسكريا وماديا مثل الجزائر والمغرب، أو ممتدة جغرافيا وغنية كليبيا. وربما يكون الأمر في أماكن أخرى عاديا ومقبولا، لكن كيف تكون هناك وحدة مغاربية في الوقت الذي يسعى فيه الكبير لابتلاع الصغير؟ ثم كيف تتحقق تلك الوحدة في غياب الثقة بين أصحاب القرار انفسهم؟
لقد تلقى الرئيس الراحل بورقيبة خلال النصف الأول من السبعينيات عرضين للوحدة، الأول مع ليبيا، والثاني مع الجزائر. ومما يذكره وزير الخارجية التونسي الأسبق محمد المصمودي، أن رئيسه قال لبومدين حين قدم له ذلك العرض «أقبل الوحدة شرط أن تعيد حكومتكم المستقلة الأراضي الشاسعة شرق الجزائر، خاصة في جهة قسنطينة، التي سبق أن ضمها الاستعمار الفرنسي للجزائر، وبعد ذلك نمضي اتفاقية الوحدة».
ثم توقف الموضوع حينها عند ذلك الحد. ولن يعرف أحد بالطبع ما اذا كانت الاستجابة للطلب الغريب لبورقيبة حينها كانت ستغير مجرى التاريخ أم لا؟ ولكن العبرة بقيت بعدها في أن الوحدة المغاربية كانت وستظل رهينة جملة من العناصر أهمها التخلص من مخلفات الاستعمار وتصفية النفوس والقلوب واستعداد الجميع للتنازل لبعضهم بعضا. أما هل سيحصل ذلك في غضون عشر سنوات من الآن أم لا؟ فليس معروفا بعد ما الذي يمكن أن تفعله تداعيات كورونا على الإقليم من معجزات، ليس أقلها شأنا جلوس القادة المغاربيين إلى طاولة واحدة بعد طول فراق وقطيعة.
(القدس العربي)