هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا يختلف عاقلان حول أن السعودية ربما تتوفر على كل شيء وأي شيء إلا الحريات. لذلك سيكون من الخطأ الفادح الاعتقاد لحظة واحدة أن الإعلاميين السعوديين والناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي الذين يتسابقون لشتم الفلسطينيين وطلب ودِّ إسرائيل، يفعلون صادقين مع ضمائرهم ومستفيدين من رياح الانفتاح المزعوم التي تهب على المملكة.
السعودية سجن كبير للحريات بكل أنواعها.
وستحتاج إلى عقود لتتخلص منه إذا صدقت النوايا وبدأت العمل اليوم. وهؤلاء الذين
تقاسموا أدوار مغازلة إسرائيل ولعن فلسطين والفلسطينيين، يفعلون طامعين في
استفادات آنية، مادية وقد تكون معنوية، لا تتجاوز فتاتا ورضا حاكم متهور ولفت
انتباهه.
يعرف المتابع للمشهد السعودي، حتى قبل انتشار
الإعلام الاجتماعي، أن الليبرالية على الطريقة السعودية، انحصرت في حفنة من
الإعلاميين يصنِّفون أنفسهم بالمتمردين عن الجمود والظلام اللذين يغمران بلادهم.
هؤلاء يعيشون في عواصم أوروبية ويَحيَون حياة غربية، لكن ليبراليتهم، حتى وهي
مفرطة، لم تذهب إلى حد لعن الفلسطينيين جهرا ومغازلة إسرائيل بالفضاضة غير
المسبوقة القادمة من الرياض هذه الأيام.
الموقف السعودي الحقيقي من فلسطين ملتبس. صحيح
أن الخطاب الدبلوماسي المعلَن يتبنى القضية الفلسطينية ويدافع عنها بقوة، مثل خطاب
بقية الدول العربية من الخليج إلى المحيط. لكن هذا كله موجه للاستهلاك الشعبي
وللمحافل الدولية. أما في الواقع، فهناك وجه غير مرئي للسياسة السعودية تجاه
فلسطين منذ 1948. هذا الوجه متروك لمحكمة التاريخ، لكن تشوبه نقاط ظل وعلامات
الاستفهام كثيرة. والأمانة تقتضي القول إن السعودية ليست وحيدة في موضوع الوجه
المخفي تجاه إسرائيل، فالحكومات العربية الأخرى لها قصص وحكايات، بعضها مخجل.
ورغم ذلك، لم تصل الجرأة يوما بدولة عربية، حتى
تلك التي لها باع في التطبيع، أن أرخت حبال الود مع إسرائيل وشتم الفلسطينيين كما
تفعل السعودية منذ شهور.
القادة السعوديون الذين يقودون جوقة التطبيع
يشبهون العقيد معمر القذافي في نزقه وتهوره تجاه الفلسطينيين إلى درجة أنه كثيرا
ما التبس عليه ماذا يريد منهم.
الحالمون في الرياض بأن التطبيع مع إسرائيل
يكفّر عنهم تاريخا من الخطايا والظلامية، ويُبقي لهم أبواب الود مع واشنطن مشرّعة
مهما كانت الظروف، وصلوا إلى السوق متأخرين جدا ليعرِضوا بضاعة قليلة وبخسة.
فالتطبيع على الطريقة السعودية لم يعد موضة، وإسرائيل لم تعد بحاجة إليه لأن الزمن
تغيّر، علاوة على أنها لم تستفد كثيرا من التجارب السابقة.
لو كان في التطبيع الحكومي المدعوم باندفاع
إعلامي وثقافي يفيد إسرائيل، لكانت جنت العجائب من تطبيعها مع مصر والأردن. هذا ما
لم تفهمه السعودية عندما أطلقت اليد لناشطيها المسعورين يقذفون بذاءاتهم على كل ما
هو فلسطيني بلا حياء.
إسرائيل لم تعد بحاجة إلى الحكومات العربية
كما كانت. وهي تعرف أن التطبيع على طريقة مصر (بعد أكثر من 40 سنة) والأردن (بعد
أكثر من ربع قرن) مفيد نفسيا وإعلاميا فقط، وملائم في المناسبات العامة والأجندات
السياسية الداخلية. والدليل أنه بعد كل هذه العقود من التطبيع، لا يجرؤ وفد سياحي
إسرائيلي أن يتجوّل بحرية وأمان في شوارع القاهرة أو عمَّان.
وتعرف إسرائيل أيضا أن هذا التطبيع يصطدم في
الواقع برفض عربي شعبي متجذر حتى لو «طبَّعت» مع كل الحكومات العربية بلا استثناء.
إذا، بقي على إسرائيل أن تفهم أن هذا الرفض المتجذر في اللاوعي العربي لا تكسره
نخب إعلامية وثقافية عديمة المصداقية ومتواطئة مع الحكام ضد شعوبها.
في الحالة السعودية تبدو جهود التطبيع، في
شكلها ومضمونها، مثيرة للسخرية. الذين أوعزوا بهذه الحملة المكثفة إعلاميا وثقافيا،
يتصرفون كذلك الأحمق الذي يخصي نفسه ليكيد زوجته.
الادعاء أن الفلسطينيين ناكرو جميل وكارهون للسعودية، واتخاذه ذريعة للإشادة بغولدا مائير، والتودد لإسرائيل مثير للشفقة. القضية الفلسطينية لم تكن يوما قضية محمود عباس أو حكومته. ولم تكن يوما قضية حماس أو أي فئة اجتماعية أو سياسية أو دينية أخرى. هناك مظلمة تاريخية معلقة، والباقي تفاصيل بلا طائل.
المحزن في هذه المهزلة أن حملة القدح والبذاءة
تقابلها حملة اعتقالات وتنكيل طالت فلسطينيين يعيشون في السعودية منذ عقود طويلة
وأفنوا شبابهم فيها. بعضهم في السجون وبعضهم شُرّدوا، وأفضلهم حظا يستبد بهم الخوف
من لحظة اعتقال يرونها مسألة وقت فقط.
لا جدال حول حق حكام السعودية أن يخططوا
لمستقبل أقل ظلاما لشعبهم. لكن مستقبل الشعوب لا يُبنى بالأحقاد على أعداء وهميين.
عدو السعودية اليوم هو التخلف وليس الفلسطينيين. ومشكلتها هي العقم الاقتصادي
وانسداد الآفاق، وليس القضية الفلسطينية. ما لم يفهم حكام السعودية هذه القاعدة
الذهبية، ستبقى جهودهم مجرد دوران في الفراغ.
(القدس العربي)