مقالات مختارة

عندما تتهاوى فكرة المجتمع أمام فكرة الدولة

جلال الورغي
1300x600
1300x600

من المفارقات المثيرة في سياق الأزمة العالمية، بسبب وباء كورونا، أنه بقدر نقص الأكسجين الذي يتسبب فيه الفيروس، عند إصابة رئة المريض، لا سيما في ظل شح أجهزة التنفس التي يمكن أن تساعد المصاب على التنفس، فإن الدولة يبدو أنها نجحت في مختلف أنحاء العالم بالتسلح بمزيد الصلاحيات والسلطات، التي تسمح لها، ليس فقط بالحياة، وإنما بالتوسع مجالات، والتنفذ صلاحيات، والتحكم سلطة.


وبالقدر الذي تنشغل فيه الأمم اليوم بمخاطر الوباء، وما قد يحصده من أرواح حول العالم، وما قد يخلفه من تداعيات اقتصادية غير مسبوقة، فإن حالة أخرى من القلق والمخاوف تتزايد بشأن السرعة الفائقة، التي تمددت بها أجهزة الدولة في توسيع صلاحياتها، وتحديد حركة المجتمع وضبط الفضاء العام، في إطار مواجهة الوباء واحتوائه. وتسلحت الدولة في هذا، ليس فقط بترسانة القوانين الاستثنائية الموجودة، والقوة العامة التي بحوزتها، وإنما وسعتها بتمرير الكثير من مشاريع القوانين الجديدة، تعزيزا لصلاحياتها وسلطاتها، واتخذت تدابير ميدانية غير تقليدية، أحكمت بها قبضتها على المشهد العام بالقوة العامة. ويقتضي ذلك الإشارة إلى مجموعة عناصر مكونة لهذا المشهد الجديد.


أولا: مثّل وباء كورونا المستجد لحظة استثنائية غير تقليدية، لا قبل ولا عهد للأجيال الحاضرة بها. وأحدث الوباء حالة من القلق استحالت مع الوقت إلى هلع غير مسبوق. وبشكل لافت دفع المجتمعات التي ظنت أنها مأخوذة لا محالة بهذا الوباء إلى الضغط بقوة، ودعوة السلطة والدولة لاتخاذ كل ما يمكنه أن يؤمن الحياة، وينقذ الأرواح، ومضت المطالبات بالتفويض للدولة كخشبة وحيدة للأمان والخلاص، من تسونامي، يتوسع في كل أركان المعمورة دون توقف، وبسرعة فائقة. حتى إنه عطل مظاهر الحياة المعتادة، ليشل لاحقا مظاهر الحياة الأساسية، فتحول الكون من عالم مترابط موصولة أطرافه ببعض، مشدودة مصالح شماله لجنوبه وشرقه لغربه، إلى جزر متقطعة، وقرى معزولة، ومدن محاصرة فعلا ومحاصرة مفعولا بها، لينتهي الأمر بعد التباعد الجغرافي إلى التباعد الاجتماعي بين الأفراد. في هذه المناخات الوبائية غير المسبوقة منذ عقود، أعلنت الشعوب والمجتمعات تسليم أمرها للدولة. وضعت الشعوب مصيرها بين يدي الدولة، تحولت في لحظة فارقة إلى شعب الدولة.


ثانيا: اللافت أن «الدولة»، المتحفزة منذ وقت للعودة بقوة لأداء الدور الطليعي المتقدم على حساب المجتمع والديمقراطية، لم تفوّت الفرصة، ولم تضيّع الوقت، لاتخاذ كل الإجراءات في هذا الصدد، ففعلت كل القوانين الاستثنائية، ومررت قوانين جديدة، للحصول على التفويض الكامل والشامل.

 

وطرحت نفسها حارسة البشرية، أرواحا وسلامة ومصالح. واتخذت في هذا الصدد إجراءات «ديناصورية» تراوحت بين العزل الشامل، والوقف الكامل، والضبط الشامل والتحديد الكامل، فهي الآمرة والناهية في الفضاء العام والخاص على حد سواء. تنهض الدولة مستعيدة الروح الهيغلية، هي الروح وهي العقل، وهي الضابط لكل شيء. لا شيء خارج تصرف الدولة اليوم. المطارات تفتح وتغلق بأمرها؛ المحلات.. المستشفيات كلها خاصة وعامة تحت تصرفها. لا شيء خاص، كله عام، كله للدولة.


ثالثا: في مناطق كثيرة من العالم، وبينها البلدان العربية، التي تبدو فيها الدولة حاضرة بثقل طاغ وشامل، تكاد تكون عبئا على المجتمع، يبدي المدافعون عن المجتمع والديمقراطية تخوفات كبيرة في ظل هذا التحفز، وما تبديه الحكومات والأنظمة من جموح بلا كوابح للهيمنة والتغول، باستغلال الوضع الاستثنائي الذي يعيشه العالم. وتتعمق هذه المخاوف من سطوة الدولة والأنظمة على حساب المجتمع، عندما نكون بصدد أنظمة توتاليتارية سلطوية أصالة، كما هو الشأن بالنسبة للكثير من الدول العربية، إذ الخشية مشروعة تماما، أن تتحول هذه الأنظمة في ظل كورونا، من أنظمة شمولية إلى أنظمة طغيانية، تصادر مساحات الشأن العام، وتفعّل ديناميكية التمدد والتوسع والتحكم، حتى يستحيل الوضع الاستثنائي أصلا، والمؤقت دائما.


رابعا: كشفت الأزمة في العالم بسبب كورونا عن حقيقة، كانت إلى وقت قريب غير متخيلة. فالمجتمع كحالة من الانتظام البشري الذاتي، الذي تعزز مفهوما واستقلالية وقوة، مقابل الدولة، بدا اليوم حالة رخوة تتهاوى كلما استحكمت الأزمة. وبدت تلك القوة الضاربة مجرد فكرة متخيلة، انصرفت عنه رموزه وقواعده على حد سواء لصالح الدولة التي تقدمت كخشبة الخلاص الوحيدة. وظهرت فكرة المجتمع كفكرة سيريالية متخيلة، قوتها في رمزيتها لا في قدرتها ولا في فعلها الذي تبخر فجأة. بدت فكرة المجتمع مع أزمة كورونا لحظة غير متعينة، لا تكاد تقبض عليها، حتى إنها تكاد تتفلّت بين يديك. توارت ديناميكية المجتمع، بكل أبعاده ورمزيته، وامتصت الدولة الاهتمام العام والخاص، فهي الضامنة للطعام وهي الضامنة للأمن وهي الضامنة للصحة، وهي الضامنة لكل شيء. فهل نستعيد اليوم المقولة الشهيرة لرئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر عندما قالت: «لا يوجد شيء اسمه المجتمع».


خامسا: أحدثت أزمة كورونا الكونية اهتزازا مفاهيميا شاملا، في الشأن الفردي والمجتمعي والوطني والعالمي. هذه الهزة العنيفة التي ستطال جذور كل المسلمات واليقينيات التاريخية، ستلج بالعالم مرحلة جديدة، قد نغامر ونقول إنها مرحلة حضارية جديدة. حقبة جديدة ستحط من مجتمعات وترفع أخرى، وقد تقدم أمما وتؤخر أخرى. ولكن المؤكد في كل هذا أن ما بعد كورونا لن يكون أبدا كما بعدها.

 

ها هي كورونا تجرح نرجسية أعظم القوى في العالم، قوى بحجم امبراطوريات حديثة، الصين والولايات المتحدة الأمريكية. تبدو الولايات المتحدة الأمريكية مرتبكة ومشلولة، غير قادرة لا على إظهار قدرتها الهائلة ولا إبراز كبريائها، بل تبدو فزعة تبحث عن توفير كمامات وأجهزة تنفس اصطناعي، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.


سادسا: من الواضح الجلي أن وباء كورونا العالمي سيدفع إلى طرح أسئلة كبرى في العلاقة بالاجتماع السياسي. بين دولة مُدت بمزيد من الأكسجين، لتعزيز نفوذها وحضورها المتضخم، ومجتمع بدا مختنقا يرفع يده طلبا النجدة من الدولة واحتماء بها، حتى تسعفه، وتمده بالأكسجين. المفارقة أنها كلما تدخلت لإسعافه تكرست المنقذ والمخلص. فهي تتغوّل بقدر ما تنجز مهمتها الجديدة في الإنقاذ. وهي تتنفس مزيدا من السلطة وتستحوذ على مزيد من القوة كلما تدخلت لنجدة المجتمع.


تعود الدولة اليوم، مع زمن كورونا، واثقة طاغية الحضور، متوسعة ومتمددة، تمارس سلطتها ونفوذها بأريحية، لا معقب عليها، ولا راد لفعلها، بعدما انكمش المجتمع تحت تهديد فيروس كورونا، بل لن نبالغ اليوم إذا قلنا إن المجتمع اليوم في ظل حالة العراء أمام خطر كورونا، وضع نفسه في حماية الدولة وتحت رعايتها، تتصرف به وتعقلن سلوكه وخياراته وتوجه تصرفاته. إنه مكر التاريخ.

 

(القدس العربي اللندنية)

0
التعليقات (0)