هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يمكن التأشير إلى ثلاث محطات فاصلة في تاريخ الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي الدائر دون توقف منذ أقل قليلا من قرن مضى، في حقبته الحديثة الممتدة منذ نصف قرن، وهي على التوالي: انطلاق الثورة المسلحة بدءا من العام 1965/1967 حتى العام 1982، ثم الانتفاضة الأولى التي اندلعت عام 1987، ثم الانتفاضة الثانية عام 2000.
وفي كل هذه المحطات كان الشعب الفلسطيني يطلق من بين صفوفه فعلا مقاوما، عفويا أولا ثم منظما، سرعان ما يتحول إلى فعل عارم، يشمل جموع الشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده بهذا الشكل أو ذاك أو بهذا القدر أو ذاك، وذلك ردا على استعصاء أو انغلاق أفق الانعتاق، وفق معادلة الصراع القائمة في حينه، فقد جاءت الثورة المسلحة عام 1965، بعد أن يئس الشعب الفلسطيني من قدرة أو إمكانية النظام العربي على تحرير فلسطين ورد حقوقه الوطنية المغتصبة منذ عام 1948 إليه، ثم جاءت الانتفاضة الأولى، تجاوزا لخروج الثورة المسلحة من لبنان، أي من خطوط التماس مع العدو، فيما جاءت الانتفاضة الثانية ردا على عدم تحقيق ما اتفق عليه في أوسلو من الانتقال لمرحلة الحل النهائي بعد مضي خمس سنوات كان متفقا على أن تكون مرحلة انتقالية.
وكل محطة من هذه المحطات حققت إنجازات سياسية وميدانية خاصة بها، ثم هيأت الواقع للانتقال إلى المرحلة التالية من الصراع الذي ما زال مفتوحا، بين الشعب الفلسطيني بكل مكوناته وفي كل أماكن وجوده، وبين المشروع الصهيوني ممثلا بدولة إسرائيل بكل مكوناته، وخاصة لطبيعته الاحتلالية، الإلغائية للآخر الفلسطيني.
باختصار فقد أنجزت الثورة المسلحة الكيانية الفلسطينية، أو ما سمي بدولة المنفى، ممثلة بـ (م ت ف) بعد أن كان المشروع الصهيوني يهدف إلى نفي فلسطين من خارطة التداول السياسي بعد إخراجها من الجغرافيا، خاصة بعد احتلال ما تبقى من أرضها عام 67، بحيث صارت (م ت ف) بعد عقدين تقريبا بفضل الثورة المسلحة، أي ما بين عامي 67_87، عضوا في الجامعة العربية والأمم المتحدة، يسمع العالم كله عبرها بقضية فلسطين وبكفاحها من أجل الاستقلال.
ثم جاءت الانتفاضة الأولى لتعيد الحيوية في أوصال الكفاح الوطني، وتمنحه البعد الشعبي وتنقل الصراع إلى داخل الوطن في وجه الاحتلال مباشرة، ولتعوض التراجع في واقع الإسناد الإقليمي والدولي للكفاح الفلسطيني، ومن ثم لتفرض انتزاع الاعتراف من العدو نفسه، بإقامة السلطة الفلسطينية وإن كانت محلية فقط على أرض فلسطين المحتلة.
أما الانتفاضة الثانية، رغم أنها اندلعت بعد الاستعصاء في كامب ديفيد واتضاح رفض إسرائيل الانتقال من المرحلي للدائم، أي رفضها إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وسعيها إلى جعل المؤقت المتمثل بسلطة الحكم الذاتي دائما، ورغم تولي الفصائل زمام أمرها، وقيادتها بشكل خاطئ ومختلف عن الطابع الشعبي/السلمي الذي كانت عليه الانتفاضة الأولى، من خلال عسكرتها، إلا أنها حققت انسحابا أحادي الجانب على رئيس حكومة إسرائيل آنذاك، أريئيل شارون، من قطاع غزة، واستمرت تقارع إسرائيل، طوال عدة سنوات، إلى أن تحول الصراع إلى سياسي، تمحور حول انتخابات العام 2006، ومن ثم فتح الصراع الداخلي على سلطة الحكم الذاتي.
في ظل نخبة الفصائل القائمة، منذ عام 2000 وحتى اللحظة، يراوح الشعب مكانه في الكفاح الشعبي، وهذا يؤكد حاجته إلى فعل ميداني يقوم باختبار نخبة الفصائل القائمة من جهة، ومن جهة ثانية، يجعل من المواجهة الميدانية المختبر الحقيقي للخلاف الداخلي، حيث يمكن من خلال التنافس على مقارعة الاحتلال إثبات أحقية هذا أو ذاك، في القيادة، أو جدارته بها، لكن ما نجم عن تشبث أركان السلطة بوهم المتحقق نتيجة الانتفاضة الثانية، وتشبت أركان خصمها بنتيجة الانتفاضة الثانية، من تحرير لغزة، وضع الطرفين الداخليين في موقعين مختلفين، ذلك أن كادر السلطة مكانه المنطقة المحررة، أي غزة، وكادر المقاومة مكانه الأرض المحتلة، أي الضفة والقدس.
المهم أنه مع التغيرات الإقليمية ومع واقع ما بعد عام 2007، وبعد انسداد الأفق تماما، حتى لدى من واصلوا المراهنة على حل أوسلو، حتى العام 2014، تزايد التوقع بالحاجة إلى انتفاضة ثالثة، يجري توقع اندلاعها في أية لحظة منذ سنوات مضت، وظهرت فعلا إرهاصاتها في أكثر من مناسبة، في هبة السكاكين، التي انخرط فيها شباب ولد ما بعد العام 1993، أي ما بعد أوسلو، شباب مستقل تنظيميا، ومنتمٍ جدا وطنيا، وفي صورة هبة الأقصى حين قاومت الجموع الشعبية بالصلاة في ساحات وجنبات المسجد الأقصى، وفرضت التراجع على الاحتلال عام 2017، الذي حاول أن يفرض البوابات الإلكترونية توطئة لفرض التقسيم المكاني والزماني للحرم الشريف.
وكل يوم ينتهك فيه المستوطنون حقوق المواطنين، ويقتل فيه جنود الاحتلال الشبان والنساء، ويقهرون فيه المعتقلين، وفي كل يوم تشن فيه طائرات إسرائيل الغارات على قطاع غزة، تتزايد فيه الكراهية ضد الاحتلال في صدور وعقول الشباب الفلسطيني، ويتراكم فيه الغضب الشعبي، وهكذا فإن "طبخة" الانتفاضة الثالثة يتم طهيها على نار مشتعلة، إلى أن تنضج، فتكون ساحتها الأساسية القدس والضفة الغربية، فيما منصات الإسناد هي غزة ومناطق الـ 48 والشتات.
في انتظار عود الثقاب الذي سيشعل الأرض المحتلة كلها، نقول بأن أفضل ما يمكن للنخبة السياسية أن تفعله هو أن تتوحد وتعيد نقل مقر القيادة السياسية إلى غزة المحررة داخليا من الاحتلال، فتتحرر هي من العلاقة معه، وتحرر جموع الشعب من تبعات تلك العلاقة، والشعب وحده قادر على دحر الاحتلال وكنسه من كل الأرض الفلسطينية المحتلة، وإقامة الدولة المستقلة مرة واحدة دون ترتيب مع العدو، أو من خلال مفاوضات ماراثونية، والمدخل الممكن والمناسب لذلك، هو الاستمرار في حراك يوم الغضب الذي بدأ قبل ثلاثة أيام، بحيث ينتقل حراك أيام الجمع من حدود غزة، إلى كل مناطق القدس والضفة الغربية، فهكذا فقط، يمكن إسقاط مخطط الضم والإلحاق.
(الأيام الفلسطينية)