هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا تحتاج إسرائيل إلى إذن من أحد لتوسيع استيطانها في الضفة الغربية، فهي تفعل ذلك كل الوقت، ويخشى الفلسطينيون أن يناموا ويصحوا يوما على أراضٍ كانت ملكهم ولم تعد كذلك؛ بسبب سياسة الزحف الاستيطاني المتواصل.
في الأساس كل فكرة إسرائيل قامت على الاستيطان والتلصص وسلب الأراضي والتوسع شيئا فشيئا، حتى تحولت إلى دولة بلحمٍ ودم على أرض الغير، وفي كل البرامج السياسية للنخب الإسرائيلية ظل المشروع الاستيطاني عنوان نجاحها وتمددها.
ما يجري في القدس المحتلة هو صورة مصغّرة عما يجري في كامل الضفة الغربية، حيث تسعى إسرائيل إلى توسيع نطاق وجودها الديموجغرافي -ديمغرافي- جغرافي- بدواع أمنية، وهي في نهاية المطاف عقيدة تخدم مصلحة الدولة العبرية في مسألة بقائها.
مشروع "التلفريك" الذي أقرته سلطات الاحتلال منذ أقل من عام، هو واحد من المشروعات التي تسعى إلى تهويد القدس المحتلة والربط بين شرقها وغربها، إذ هناك من يطبلون ويسوقون لفكرة أن المشروع سياحي ويهدف إلى تعظيم الأرباح واستقطاب المزيد من السياح.
في حقيقة الأمر الموضوع ليس كذلك، وإسرائيل تدعي أن "التلفريك" مشروع سياحي لكنه استيطاني بامتياز حتى لو كان سياحيا، لأنها من ورائه تكون قد حققت عوامل كثيرة، من بينها استيطان العديد من الأراضي الفلسطينية التي يمر فوقها "التلفريك"، لأنه مدعوم بمحطات خمس وأعمدة خرسانية أو حديدية بالعشرات ستبنى على ممتلكات المقدسيين.
هذه السيطرة الهوائية تخدم إسرائيل في موضوع تغير الهوية الإسلامية للقدس، وسبقت هذا المشروع مشروعات كثيرة تحت الأرض وحفريات لتغيير طابع المدينة المقدسية، وتشويه صورتها التاريخية واستبدالها بهوية يهودية، ودعاية تسويقية من أجل إحكام السيطرة الكاملة على القدس.
لن يقتصر الفعل الإسرائيلي على إقامة "تلفريك" في السماء فحسب، بل هناك خطط تتعلق بتوسيع محطات "الترام" وجعلها تصل بين القدس ومستوطنات "غوش عتصيون" في الجنوب، وكذلك فتح المدينة المحتلة على الساحل بشبكة قطارات حديدية.
خطورة هذا المشروع تتعلق بتزييف وعي الزوار والسياح حول المكانة التاريخية والخصوصية المقدسية للمدينة المحتلة، ذلك أن التقارير الصحفية تفيد بأن خط "التلفريك" لن يمر على المعالم الإسلامية، أو أنه سيشوه تاريخيتها على حساب تسويق الراوية الإسرائيلية للأماكن المقدسة.
كل هذا يأتي ضمن المشروع الأكبر، مشروع ترسيخ القدس عاصمة أبدية لإسرائيل وتحويلها إلى منطقة جذب سياحي وعنوان رئيسي لنشاط وحركة الإسرائيليين من وإلى العديد من المدن المحتلة، وهذا يدفع الدولة العبرية لتسريع جهود تهويد القدس الشرقية وضمها إلى الغربية.
لن تكتفي إسرائيل بالنيل من القدس الشرقية، بل ستعمل على ربط القدس المحتلة بالمستوطنات المنتشرة في الضفة الغربية، وهي تدعم خطط إحلال المستوطنين محل المقدسيين والاستفادة من الأراضي المسروقة في مشروعات سكنية توطنهم لتُمكّن وجودهم فيها.
لقد تمكنت إسرائيل من ترسيخ سياسة الأمر الواقع على كل ما وضعت يدها عليه، و"صفقة القرن" تأخذ ذلك بعين الاعتبار، إذ تؤكد هذه الخطة حق الدولة العبرية في السيطرة على الكتل الاستيطانية والمستوطنات المعزولة في الضفة الغربية.
المؤسف أن الفعل والصوت الفلسطيني ضد كل السياسات التوسعية الإسرائيلية غير مُجدٍ في حضرة تفوقها والدعم الذي تتحصل عليه من الولايات المتحدة الأمريكية التي تغض الطرف عن الاستيطان في كامل الضفة، والعرب منشغلون في أوضاعهم الداخلية وعلاقاتهم بعضهم مع بعض ومحيطهم الخارجي.
إذا كان من بدٍّ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من عجلة التهويد الإسرائيلي للقدس المحتلة، فإن على الفلسطينيين أن يدركوا أن هذه المعركة هي معركتهم أولا، وأن الأولوية تكمن في توحيد طاقاتهم وتوجيهها ضد الاحتلال الإسرائيلي.
قد يحدث هذا إما بتحالف فصائلي تحت أي مسمى (وطني أو مصلحي وقتي) من أجل فرملة المخططات الإسرائيلية في القدس والضفة، أو يحدث بانتخابات فلسطينية نزيهة تعترف فيها الفصائل بالنتيجة، وتمد يدها لخدمة ملفات أكبر مرتبطة بقضيتها والمصير والهم المشترك.
إسرائيل تسحب بساط القدس الشرقية من تحت أقدام الفلسطينيين وإن لم يفعلوا شيئا ويستعجلوا وقف ابتلاعها وتزوير تاريخها ستصبح بحكم الواقع مُهوّدة وامتدادا للقدس التي تريدها إسرائيل، وحينذاك تحل "اللعنة" ونبكي على ما فات يوم لا ينفع الندم.
إذا كان من بدٍّ فعلى الفلسطينيين أن يتوحدوا لنصرة القدس المحتلة ونجدة أهلها الذين يتعرضون لأبشع صور التطهير والترحيل القسري، و"المرجلة" ليست بتبادل الشتائم وتعميق الجرح الداخلي، وإنما تجاوزها وغض الطرف عنها والتركيز على عناوين وطنية ملحة وأكثر أولوية وتشكل المظلة التي تجمع كل الفلسطينيين وتوحد صوتهم في الداخل والخارج.
بالأمس كنا نشهد على حفريات الاحتلال تحت الأقصى، وقبلها وخلالها حرمان المقدسيين من أراضيهم ومن العيش في مدينتهم بسحب الهويات منهم والتضييق عليهم ومنعهم من دخول القدس ودفعهم للخروج منها، واليوم نشهد على "تلفريك" يكمل المخطط الإسرائيلي التهويدي، والله أعلم ماذا سنشهد بعد ذلك من مخططات غرضها الرئيسي وضع كامل القدس في جيب إسرائيل.
(الأيام)