هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في ظرف إقليمي ودولي صعب نجحت تونس في تنظيم ثلاثة استحقاقات انتخابية مهمة. جرى الأول في الخامس عشر من الشهر الماضي، حين زعزع اقتراع الرئاسيات أركان الثورة المضادة وأسقط قسما مهما من حساباتها. وفي الثاني جاء اقتراع التشريعيات الأحد الماضي، ليعزز الثقة بالثورة، ويؤكد بقاء شعلتها ملتهبة وحية.
ولن يكون مستبعدا أن يأتي اقتراع جولة الإعادة الأحد المقبل، مثلما يأمل
ويتوقع كثيرون ليكون حفل التتويج الرسمي لمسار ديمقراطي تونسي، بات يثير إزعاجا
وقلقا متزايدا في أكثر من عاصمة إقليمية، تأتي على رأسها أبو ظبي، التي حصدت حتى الآن
من الاقتراعين التونسيين خيبتين، وتسير مثلما تدل كل المؤشرات نحو جني الثالثة،
عندما يكتمل الاستحقاق الانتخابي أواخر الأسبوع الجاري.
والواقع
أن حكام الدولة الخليجية، التي وصفها الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي بأنها
جزء من محور الشر العربي، باتوا يمرون بأوقات عصيبة، ليس فقط لأن التوتر والتصعيد
العسكري الذي يرتفع نسقه حينا ويخفت حينا آخر في الخليج، يجعل مصالحهم مباشرة في
مرمى التهديدات، أو لأن ما يصيب جارتهم وحليفتهم الكبرى السعودية من ضربات موجعة
على أيدي الحوثيين، يجعلهم قلقين على مصير تحالفهم وحربهم في اليمن، بل لأن على
طاولتهم أيضا قائمة طويلة من المشاكل والمواضيع التي تعكر صفو سعادتهم، وتجعلهم
مهمومين ومشغولين، وربما حتى مستنفرين وغاضبين بشكل دائم.
وسيكون على رأس تلك اللائحة من دون شك تلك المآزق التي وضعوا أنفسهم فيها في دول أخرى بعيدة عنهم كليبيا مثلا، لكن قد نرى فيها أيضا بلدانا لا تعرف حروبا أهلية، أو صراعات، ويفترض أن لا يكونوا أصلا على علاقة مباشرة بما يجري داخلها من أحداث مثل تونس، التي تأخذ مساحة مهمة من تفكيرهم، رغم أن كل المظاهر الخارجية لا تعطي انطباعا بذلك. فهذا البلد الصغير الذي نجا من محارق الربيع العربي، وبقي الشمعة الوحيدة المضيئة فيه كما يحلو دائما لزعيم حركة النهضة أن يردد، مازال محط أنظار الإماراتيين، ومحل اهتمامهم، واللغز الذي عجزوا عن حله، بل صار يمثل التحدي الأكبر لهم، بعد أن فشلت كل محاولاتهم في تحويل وجهة ديمقراطيته الفتية وتخريبها.
فشلت
الإمارات في تعطيل الانتخابات، ثم إقصاء الإسلاميين من الفوز بها، وأخيرا أخفقت في
وأد المسار الديمقراطي التونسي
ورغم انهم ينكرون دوما أن تكون لهم مطامع أو نوايا أو أهداف ضد تونس
أو ضد ديمقراطيتها، ولا يعلنون
شيئا من خططهم، ويتحفظون على الكلام الصريح والمكشوف، ويؤكدون
بالمقابل دائما أنهم يحترمون سيادة الدول وإدارة الشعوب، ولا يرغبون في التدخل في
شؤون دولة عربية شقيقة يكنون لها كل الود والاحترام والتقدير، فإنهم بينهم وبين
انفسهم يشفقون على التونسيين، الذين ذهبوا مرتين في أقل من شهر واحد إلى مراكز
الاقتراع ليختاروا رئيسا لهم ثم مجلسا لنواب الشعب، ويرون أن عودتهم الأحد المقبل
للمرة الثالثة على التوالي ليحسموا الرئاسيات في جولة الإعادة، هي نوع من
الفانتازيا والتبذير الديمقراطي الذي لا يليق بدولة عربية، يرغبون بأن تكون
علمانية مثلما يفهمون هم كلمة العلمانية،
ويتصورون معناها ونطاقها. ومصدر انزعاجهم وقلقهم واضح، فهم لا يعرفون
بالضبط مع من ستشكل حركة النهضة الحكومة المقبلة؟ وما يرونه هو أن الشتات الذي
سيكون عليه البرلمان الجديد لن يسمح لها بأن تكون في الآجال الدستورية حكومة قوية
وقادرة على الحكم. ولأجل ذلك فهم يتوقعون أن تونس ستدخل خلال الشهور الستة المقبلة
في أزمة سياسية حادة، وسينتهي بها الأمر إلى إعادة الانتخابات، والسقوط في دوامة
الصراعات المقيتة. وحتى لا يقال إنهم شامتون أو حاقدون على التجربة الديمقراطية،
لا سمح الله، فإنهم يريدون أن يحصروا الأمر على أنه سيكون النتيجة الحتمية لما قال
عنه موقع "العربية نت» صباح الاثنين الماضي إنه "عزلة النهضة التي ترفض
الأحزاب التحالف معها في البرلمان» لأنها ببساطة حركة إخوانية، أي إرهابية كما
يعتقدون هم وباقي حلفائهم.
لكن لنعد ساعات إلى الوراء فمن يعرف كيف أمضى السفير
الإماراتي المعتمد في تونس ليلته الأحد الماضي، وهل انه استطاع حين مضى إلى مهجعه
أن ينام جيدا وملء جفونه؟ أم أنه عانى ليلتها من اضطراب في النوم، وربما أصيب
بالأرق الشديد وأحاطت به الهواجس من كل صوب؟ ربما سيكون ذلك واحدا من الأسرار التي
لن تكشف الآن، غير أن المؤكد هو أن راشد المنصوري لم يكن في وضع عادي بالمرة، فقد
فعل كل ما بوسعه حتى تكون الانتخابات البرلمانية التي جرت يومها موافقة لآماله،
ولما أرادته وخططته له قيادته في أبوظبي، غير أن رياحا كثيرة جرت كما يقال عكس ما
تشتهيه السفن، وسقطت كل التوقعات والتطلعات الإماراتية في الماء.
لقد بدت الخيبة الأولى بسيطة أمام الثانية التي كانت بأنظاره وانتظار
حكومته. ففي الوقت الذي لم ينجح فيه تجييش الإماراتيين والقوى التي ترتبط بهم في
الداخل، للتشكيك في نزاهة العملية الانتخابية، وعدم تكافؤ الفرص بين المرشحين لدور
الإعادة في الرئاسيات، بسبب استمرار إيقاف رجل الأعمال المشبوه نبيل القروي، حافظت
حركة النهضة على وجودها كرقم صعب، ولم تندثر مثلما كان مقررا، بل أثبتت قدرتها على
الصمود والوقوف بندية كبرى أمام شتى الضغوطات التي تعرضت لها وأمام المافيا
المالية وإمبراطورتيها الإعلامية التي فعلت المستحيل لإخراجها من السلطة، وأعدت
العدة حتى يكون السادس من أكتوبر هو موعد دفنها والقضاء عليها نهائيا، واستطاعت
قلب الطاولة وتحقيق فوز انتخابي "لا غبار عليه" مثلما وصفه رئيسها.
وكان واضحا أن الملياردير المصري نجيب ساويرس كان واحدا من المشرفين على الخطة الإمارتية التي قامت على إغداق المال الفاسد والمشبوه على اكثر من وسيلة إعلامية محلية، وأيضا على أحزاب كانت تعجز إلى وقت قريب عن جمع مئات الأفراد لتتحول بقدرة قادر إلى أحزاب جماهيرية، يظهر قادتها ورموزها بمناسبة أو من غير مناسبة في أشهر البرامج التلفزيونية، وأكثرها استقطابا للجمهور، والهدف كان واضحا وهو القصف الإعلامي المستمر على الحركة، وتشويه صورتها لدى الرأي العام.
لكن
المفاجأة الأكبر كانت الكشف عن تعامل القروي مع شركة تسويق أمريكية، يرأسها ضابط
استخبارات إسرائيلي سابق، وكانت "الطامة الكبرى وأم الكبائر» مثلما كتب
القيادي النهضوي البارز رفيق عبد السلام الجمعة الماضي على صفحته على فيسبوك، هي
أن الجهة التي تكفلت بدفع مبلغ الصفقة وهو مليون دولار هي دولة الإمارات التي
وصفها بأنها عراب الثورات المضادة ومشاريع الخراب. وفي المحصلة فقد كان الفشل
مثلثا فقد فشلت الإمارات في تعطيل الانتخابات، ثم إقصاء الإسلاميين من الفوز بها،
وأخيرا أخفقت في وأد المسار الديمقراطي التونسي. لكن المشكل يبقى أن حكامها لا
يملون من المحاولة، رغم كل ما راكموه من خيبات وكأنهم يرون في أي انتخابات عربية
ناجحة تعجيلا بنهايتهم ودخولهم سراديب التاريخ العربي من أظلم أبوابه.
(القدس العربي)