أفكَار

المثقف في صلب المعركة السياسية الأهم في تونس

تونس.. الانتخابات الرئاسية والتشريعية تعيد الجدل عن دور المثقف في إحداث التغيير  (الأناضول)
تونس.. الانتخابات الرئاسية والتشريعية تعيد الجدل عن دور المثقف في إحداث التغيير (الأناضول)

هل تراجع دور المثقف والمفكر التونسي في الشأن العام لصالح التحديات الاقتصادية والأمنية والسياسية التي هي مهمة السياسي بالدرجة الأولى؟ أين يمكن تصنيف مرشح الرئاسيات المتصدر لنتائج الجولة الأولى هل هو من خانة المثقفين أم من خانة السياسيين؟

 

المثقف التونسي في قلب المعارك الانتخابية الرئاسية والتشريعية، هو موضوع هذا التقرير، الذي أنجزه الصحفي والإعلامي التونسي الحسين بن عمر  خصيصا لـ "عربي21"..

 

وصّف الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز صدمة البرجوازية الفرنسية، بين الحربين، وهي ترى الخادمات لأوّل مرّة على شواطئ دوفيل، بأنها كانت أشبه برؤية عصر الديناصورات يعود فجأة، وأن رؤية البرجوازيين للخادمات، المتمتعات وقتها بإجازات خالصة الأجر، كان أسوأ من وصول الدبابات الألمانية إلى شواطئ دوفيل. 

 

صدمة لمنظومة السيستام

يقدّر كثيرون أن ذات التوصيف قد ينطبق على ما بدت عليه أنتلجنسيا المنظومة القديمة (SYSTEM) في تونس من هلع وهي ترى قيس سعيّد، الرّاهب العابر لتكايا الإديولوجيا والعارج إلى محراب السلطة دون سابق تجربة سياسيّة أو حقوقيّة، يقترب من شواطئ قرطاج وقد وضع ساقا أولى في القصر متقدّما على منافسه نبيل القروي (العنكبوت)، الذي شكل تقدّمه هو الآخر على "العصفور النادر" لحركة "النهضة" رجّة لأكثر الأحزاب السياسية تماسكا منذ تشرين أول (أكتوبر) 2011، وصدمة مدوّية لأحزاب يساريّة تاريخية، لم يتعدّ رصيدها الانتخابي، من أصوات ضعاف الحال، الأجزاء العشرية بعد أن "سبقهم بها عكاشة".

 


ولئن عدّ كثير من المهتمين بالحقل السياسي العربي عامة، والتونسي منه بشكل خاص، أن تصدر أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد لنتائج الدورة الأولى من الرئاسيات التونسية، استفاقة للمثقف وعودة له للعب دور تاريخي في ترشيد التغيير ودعم الانتقال الديمقراطي، بالنظر إلى أن قوة الحجة هي وحدها التي وقفت خلف انحياز الجمهور إليه، وخصوصا منه الشباب، فإن المخاوف من امكانية تراجعه في الدورة الثانية في مواجهة منافسه السجين نبيل القروي، رجل المال والإعلام، واحدة من الضربات الموجعة للمثقف بعد أن تم توجيه ضربة مماثلة للمكون السياسي بشقيه الثوري والمحافظ.

والغريب في ظاهرة قيس سعيد، ليس في أنه استطاع الولوج إلى جوهر مطالب التونسيين، والتقاط اللحظة التاريخية بما تمليه من اتجاه لمعالجة الملف الأهم، وهو إشراك غالبية الجمهور التونسي في صناع القرار، من خلال تلميحه إلى اعتزامه المبادرة بطرح تعديلات دستورية تترجم هذا التوجه ممارسة على أرض الواقع، وإنما الغريب في قدرته على تجميع قطاع عريض من التونسيين من إيديولوجيات فكرية متناقضة، حيث تجد في حملته الانتخابية سليل أقصى اليسار رضا هشام مكي المشهور بـ "لنين"، وأيضا واحد من أهم رموز التيار الإسلامي، ممثلا في رضا بلحاج، علاوة على استقطابه لقطاع من جمهور حركة "النهضة" للتصويت إليه. 
 
لا يستبعد أن تأتي الهزات الارتداديّة لزلزال الدورة الأولى من الرئاسية السابقة لأوانها، والتي تداخل فيها السياسي بالاقتصادي بالثقافي والفكري، على ما تبقّى من أحلام النخبة السياسية المهترئة خلال انتخابات أعضاء البرلمان المقررة ليوم 6 تشرين أول (أكتوبر) المقبل، ممّا يزيد في مشروعيّة البحث في خبايا الهزّة المعرفية التي ارتكس فيها المثقف العربي، والتونسي على وجه الخصوص، من عجز عن استيعاب التغيّرات التي طالت صيغ الفعل الثقافي والسياسي والمجتمعي ووسائل التغيير في زمن التحولات التاريخية الكبرى على حد تعبير الباحث المغربي زكريا السرتي.

 



عجز المثقف التونسي عن فهم واستشراف تموّجات المزاج الانتخابي بعد تسع سنوات على ثورة 17 كانون أول (ديسمبر) 2010 ـ 14 كانون ثاني (يناير) 2011، تلقّى فيها الناخب التونسي صنوفا من كدمات العنف الرّمزي الممارس عليه من قبل أبواق إعلامية قديمة وكبكبته ضمن أتون الصراع الهووي، نقلته من ضيق الأحزاب إلى سراب الهوامات، موجب للحفر في خلفيات الوهن الفكري والثقافي وتمثلات النخب الجامدة للتغيير الكبير الذي أبانت عليه نتائج صناديق الاقتراع، وهو إلى ذلك، دافع للبحث في مدى تأثير اكتساح الجيل الجديد من المثقف "العابر" أو المثقف الروبوت لمساحات كان يشغلها المثقف التقليدي أو النمطي.

غزو الثقافة "العابرة"

لقد ظلت العلاقة بين المثقف والسياسة ملتبسة دوما، وقليلا هم أولئك الذين يمتلكون قدرا من الفكر والثقافة هم الذين يستطيعون قيادة المجتمعات في منعطفات تاريخية كبرى ودقيقة كالتي تعيشها معظم دولنا العربي منذ نهاية العام 2010. وتونس ليست نشازا عن ذلك، وإن كانت سنوات الثورة الأولى، ومرحلة كتابة الدستور، التي انتهت بالمصادقة على الدستور وإجراء انتخابات 2014، قد شهدت دورا محوريا للفكري والأيديولوجي، بأدوات أحيانا سياسية، إلا أن ذلك سرعان ما تراجع لصالح السياسي العابر تحت وطأة مكافحة الإرهاب أولا ثم سؤال التنمية ومواجهة مخلفات الفقر ثانيا.

يعدّ انحسار مجال تدخّل المبدع أو المثقف، من التحدّيات الكبرى التي يطرحها مبحث سوسيولوجيا الأفكار، فاكتساح الوسائط الرقميّة لمجال اليومي المعاش همّش مجال تأثير المثقف التقليدي لصالح ثقافة جديدة نابتة، حيث يشير عالم الاجتماع الطاهر لبيب، في مقالة له بعنوان "الثقافة والمجتمع: تفكك العلاقة وتعليق الدّلالة"، نشرت بأحد أعداد مجلة الفكر العربي المعاصر، إلى فقدان الثقافة لأصولها الاجتماعية وبذلك تنحّت الثقافة التقليدية السائدة لفائدة ثقافة جديدة هي ثقافة العابر VIRTUAL. 

 

مقاربة سوسيولوجية

وفي ظلّ تدخّل الوسائط الرقمية والاتصاليّة وسيطرتها على جمهور المتلقّي، يؤكّد الطاهر لبيب على أنّ التحدّي الكبير الذي يواجه الباحث الاجتماعي عند قيامه بالتقاط أصوات المجتمع هو وجود هذا "الضجيج المؤسسي الذي يمثل صعوبة إضافية في الربط التحليلي بين أصوات الفكر وأصوات المجتمع". وليكون وجها لوجه مع موضوع البحث الاجتماعي دون وسائط ومعيقات، يكون من اللزوم على الباحث استنباط آليات جديدة لالتقاط هذه الأصوات، والنأي عن تقنيات البحث الميداني التقليدية المعتمدة من قبيل الاستجواب المفتوح أو الملاحظة بالمعايشة، يضيف لبيب.

 



المقاربة السوسيولوجية التي يطرحها الطاهر لبيب تميط اللثام عن مكامن عقم المثقف التقليدي وتبين عجزه عن فهم التطورات التاريخية المتسارعة التي تشهدها المنطقة العربية منذ كانون ثاني (يناير) 2011، يتعاظم هذا العجز بميلاد ثورة جديدة في صلب مفهوم المثقف، وما إذا كنّا إزاء أزمة مثقف أم مثقف أزمة كما يذهب إلى ذلك جوهر الجموسي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة منّوبة، في مداخلة له بعنوان "المثَقف النمطي والمثَقف النّاشئ في العالم السّيبرني" كان ألقاها خلال المؤتمر السنوي الرابع للعلوم الاجتماعية والإنسانية" بمدينة الرّباط المغربية.

وفي ذات السياق، يضيف الجموسي أن "علم الاجتماع يجد مفارقة نابتة تتمثل في انزياحات هائلة لصورة المثقف، فبين المثقف النمطي والمثقف الناشئ أو "الميتا ـ مثقف" انكسار حاد في إطار وموضوع الصّورة، فالمثقف التقليدي فقد مساحة من السلطة وتخلّى عنها لفائدة وسيط جديد هو المنشط التلفزيوني ومهندس الحاسوب والمختص في البرمجيات الحديثة والمدوّن والفرد الافتراضي".

المقاربات السيوسيولوجيّة أعلاه تكشف حجم الانهيارات التي أصابت عالم المثقف التقليدي، مقابل تموقع فاعلين جدد هم مجموعات التفكير (think tanks) الذين باتوا يحتلون الموقع الريادي الذي كان يملؤه المثقف التقليدي. وبالتالي فإنّ القول الدقيق الذي تخلص إليه هذه المقاربة هو الجزم بتحوّل أدوار المثقف من مثقف تقليدي إلى مثقف وافد وافتراضي رغم ما عليه من هنات وانتقادات، هذا الجيل الجديد من المدونين والوسائط اللوغارتمية والتقنيات الاتصالية هي من أضحت تغيّر في الواقع، هذا الانزياح في الأدوار هو الذي سيلقي بضلاله على رمزيّة المثقف وعلى قيمته الاعتبارية داخل المجتمع.
انهيار القيمة الرّمزية لـ"النخب"

 

المثقف "التراجيدي" والمثقف "المقاول"


يعيب كثيرون على النخبة تخلّفها عن قيادة الحراك الاجتماعي، فضلا عن عجزها عن استشراف مآلات التحوّلات التاريخيّة المهمّة التي تعرفها تونس والمنطقة منذ كانون ثاني (يناير) 2011، فهذا الحضور على الهامش، أخّر المثقّف عن صياغة المشروع الوطني الذي يصلح رافعة يطلبها الواقع، استجابة لدواعي التاريخ وانسجاما مع الجغرافيا السياسية والإقليمية وحتى الدولية، يؤكّد خالد الكرونة، الكاتب والإعلامي بإذاعة تونس الثقافيّة، في تصريح لـ "عربي21".

 



عجز النخبة التونسية عن استشراف مآلات الحراك الاجتماعي، يحيلنا إلى صنفين إثنين من تصنيفات الطاهر لبيب الأربع للمثقف، هما: المثقف "التراجيدي" والمثقف "المقاول"، اللذين ينطبقان على المثقف المصدوم من نتائج الدورة الأولى للرئاسية.

يعرّف الطاهر لبيب، في حوار سابق لصحيفة "السفير" اللبنانية، مثقف "المستحيل" أو مثقف "التراجيديا" كلّ مثقف "يعلم أن مشاريعه لم تعد، ولربّما لم تكن يوما، قابلة للإنجاز ومع ذلك يكابر عن أخطائه ويتمسّك بها" وهو ما يسميه لوكاتش بالمثقف الإشكالي، في حين يعرّف المثقف "المقاول" "كلّ واقف على ركام الملحمة وقد وجد نفسه في موقع المنتصر في معركة لم يشارك فيها، مستمدّا انتصاره من مشاهدة هزيمة الآخرين يحسب كل انتصار له".

وقوف النخبة التونسية على ركام الملحمة، وانتشائها بموقع المنتصر في أحداث الثورة وما بعدها، من شأنه أن يعرّي أسباب تخلفها عن استقراء الصدمة الانتخابية الأخيرة، عكس ما أقدمت عليه النخبة الفرنسيّة، وفي طليعتها سارتر وديلوز وبرديار، من تبنّ كامل لانتفاضة الطلبة في أيار (مايو) 68 وتصدّر المكانة الطليعيّة التي تليق بالمثقف القرامشي.

يرجع خالد الكرونة انهيار القيمة الرّمزيّة للنخب إلى ما تعيشه هذه الأخيرة من حالة عطالة فكرية واستغراقها في الخصومات الدونكيشوتية والمهاترات، ممّا أعاقتها عن تشخيص الواقع وتحديد متطلّباته، مؤكّدا على صفة "المقاولة" التي طرحها الطاهر لبيب من خلال الإقرار بسعي جانب مهم من النخبة إلى جني "الأرباح" و"ركوب الموجة".

في نفس الإطار، يعتبر الصحفي نصر الدين بن حديد، في تصريحات لـ "عربي21"، أنّ المثقّف العربي الراهن يقوم بإسقاط أوهامه الفكرية على الواقع المعيش، ومن ثمّة وأمام الصدمات الأولى عند الممارسة والشعور بالعجز أمام المنافسين، "ينقلب هذا المفكّر(المثقف) إمّا إلى مراجع لفكره والبحث عن صياغة تتوافق مع الواقع، أو في أسوأ الحالات، التخلّي عن الفكر ذاته ممارسة، والاكتفاء بجعله مجرّد خطاب مناسبات، بحثًا عن التميّز وسعيا وراء الارتقاء في المراتب"، مؤكّدا أنّ الفكر "فقد رمزيّته والحظوة التي كان يملكها منذ عصور الانحطاط ودخول الفضاء الإسلامي مرحلة من السبات الفكري، وهو ما حوّل الفكر بعدها إلى مجرّد بوق، هدفه إيجاد المسوغات الفقهيّة أساسا وتأمين صورة ناصعة للنظام".

 



فمنذ تلك الفترة إلى يوم الناس هذا، لم تتأسس بمفهوم العمق الزمني والتراكم الفاعل، حركة فكريّة، قادرة في الآن ذاته على مغادرة بوتقة السلطان (أيّ السلطة) دون السقوط في بوتقة سلطان أخر، أيّ التحوّل من كائن تابع إلى إنسان يملك القدرة على تأمين مسافة توفّر ما يكفي من الرؤية لممارسة النقد واستشراف التحوّلات التاريخية الممكنة، يضيف بن حديد.

إن انكماش المثقف التقليدي وعدم تحيين أليات اشتغاله السوسيولوجية هو الذي أفقده قيمته الرّمزية ودفع به إلى هامش الفعل التاريخي، تتسارع من حوله المحطات التاريخية، وهو قابع على أريكة الأكاديميا: إما تراجيديّا متكلّسا أو مثقفا مقاولا يحسب نفسه مع كل تغيير اجتماعي ناجح بتعبيرة الطاهر لبيب. في حين يتعاظم دور ونفوذ المثقف السيبراني والمدوّنون وروبوتات الاتصال، ومن هذه الكتف أكلت مجامع الإديولوجيا وكرتوناتها الحزبية التاريخية التي صدمتها نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة.

التعليقات (0)