عندما نحكم على أمة بالتخلف، لا بد لنا من مقياس نستند إليه في ذلك الحكم، ولكن الذي ينبغي أن ينعقد عليه يقيننا، أن ذلك المقياس ليس هو إطلاقًا نموذج الغرب وحضارته المادية، وإنما هو النموذج الإسلامي المتكامل الذي تجسد على أرض الواقع ردحًا من الزمان، وأشعّ بأنواره على البشرية كلها، ولا يزال إلى الآن وإلى الأبد مثالاً ترنو إليه الأبصار والعقول، التي تدرك المعنى الحق للحضارة والتقدم.. والسبب في ذلك واضح، وهو أن النموذج الغربي قد قام على أساس مادي صرف وعلى رؤية مبتورة لمفهوم التقدم مشتقة من رؤيته للكون والحياة والإنسان... وهي رؤية لا تحتل منها القيم الأخلاقية والفضائل التي تسمو بحياة الإنسان وتميزه عن الحيوان حيزًا يذكر.
ومن هنا، وجب تحرير عقول المسلمين من ذلك الاقتران الخطير الذي درجت على استساغته، وهو الاقتران بين التقدم ومجتمع الغرب، غافلين كل الغفلة، عن أن ذلك الطراز من التقدم إذا وضع في ميزان الإسلام، سيكون مصيره الرفض، لأنه يهتم بإشباع حاجات الإنسان المادية، ويخنق فيه حاجاته الروحية، وهو في النتيجة والمآل سينعكس على منتوجاته المادية ويدمرها تدميرًا، في غياب الحصن الأخلاقي الذي يحمي مكاسب الإنسان الحضارية ويصونها من الفساد.
محددات بوادر التأخر الحضاري
هناك اتجاهان متباينان في تحديد بداية بوادر التأخر في الحضارة الإسلامية: الاتجاه الإسلامي والاتجاه الحداثي؛ فالاتجاه الإسلامي يذهب إلى أن بوادر التأخر بدأت عند الانحراف عن منهج الخلافة الراشدة، والتحول إلى المُلك العضوض، بينما نجد أن تيار الحداثة يعود بأسباب التأخر إلى العصر الجاهلي، متجاهلًا دور الإسلام في تحديث الحياة الثقافية والاجتماعية والفكرية التي شملت العالم أجمع.
والتحول إلى الملك العضوض ـ حيث شابت الشورى الملك العضوض كما عبّر الدكتور عمارة ـ منذ تأسيس الدولة الأموية (41 هـ = 661م) أدت سلبياته إلى تفجير سلاسل من الثورات والأزمات عالجتها الدولة بالمزيد من الأدواء، وما نعيشه اليوم من انكسار حضاري شامل ليس إلا امتدادًا لهذا الطريق المظلم الذي فتحت أبوابه الدولة الأموية، قال الحسن البصري: "ولولا معاوية لكانت شورى إلى يوم القيامة".
إن الطريق الحضاري مفتوح لمن أراد الدخول، ولن يكون الدخول إلا بطَرْق باب سنن الله في الكون، فمن طرقها دخل وإن كان غير مسلم، ومن لم يطرقها طُرِد وإن كان من أولياء الله الصالحين.
فنظام التوريث الذي اتبع في الخلافة الإسلامية منذ خلافة معاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنهما ـ ساهم بشكل كبير في الجمود الذي تحياه الأمة اليوم، ومن ثمَّ في الانكسار الحضاري، وإن لم يظهر أثره أيام معاوية ومن خلفه من بني أمية، وهذا لا يعني الانحدار التام للحضارة، ولكنها كانت السبب الذي كان ينخر بالتدريج في البناء الحضاري الشامل لدولة الإسلام في كافة المجالات إبان الدولتين الأموية (41 - 140هـ = 661 - 757م)، والعباسية (140 - 656هـ = 757 - 1258م) اللتين نشأ في ظلهما كل ما تزهو به حضارتنا مما تتلمذ عليه الغرب وغيرهم، وما راج خلالها من مذاهب فكرية، وعلوم مدنية وشرعية، وجهاد في سبيل الله، فانحراف الدولة في وقت مبكر لا يعني الانحدار التام، ولا يعني أن تاريخنا كان ظلامًا.
ويرجع الأستاذ مالك بن نبي الأسباب الحقيقية للتقهقر الحضاري الذي وصل إليه العالم الإسلامي اليوم إلى "فقدانه القيم الروحية والفضائل الخلقية، باعتبارها قوة جوهرية في تكوين الحضارات"؛ ولا شك أنه بانهيار القيم في عصر من العصور ينهار البناء الاجتماعي؛ لأن البناء الاجتماعي يقوم في الأصل على تلك القيم؛ إذ لا يقوى على البقاء بمقومات العقل والعلم والفن فحسب؛ لأن الروح وحدها هي التي تتيح للإنسانية أن تنهض وتتقدم، فحيثما فقدت الروح سقطت الحضارة وانحطت، فالذي لا يملك القدرة على الصعود لا يملك إلا أن يهوي بتأثير جاذبية الأرض.
إن ضعف العقيدة في نفوس المؤمنين، وهي كما يسميها مالك بن نبي "الدفعة القرآنية الحية" تكون نهاية الدورة الحضارية للأمة الإسلامية، وهجرة تلك الحضارة إلى بقعة أخرى، أو إلى أمة أخرى، تبدأ فيها دورة جديدة طبقًا للسنن الإلهية في الكون.
ذلك؛ لأن وظيفة الدين في الإسلام أنه قوة دافعة لحركة الإنسان الحضارية تتميز بالإيجابية والفاعلية في مقابل العقائد والمذاهب التي ترى في الجوانب الإيمانية والروحية مجرد وسائل وطرق الهروب من الواقع وإيثار للسلبية والسكينة حيث يتم الفصل نهائيًا بين العقيدة الإيمانية وبين الوظيفة الاجتماعية التي يمكن أن تقوم بها هذه العقيدة في دنيا الحضارة والتفاعل الاجتماعي.
وربما قصد مالك بن نبي بـ"الدفعة القرآنية الحية" تلك المبادئ القرآنية التي أقام الله عليها نظام الكون، لاسيما السنن الإلهية أو المبادئ الحضارية منها، وعندئذ يكون – في ظني – قد أصاب الحق، أما إذا قصد بالدفعة القرآنية تلك المبادئ العقدية الإيمانية البحتة، من إيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والرسل... إلخ، وتغافل دور العقل والعلم والفنون توجه إليه هنا سؤال مؤداه: ما هي قيمة العقل في غياب القيم العقدية والإيمانية؟
إن ضعف العقيدة في نفوس المؤمنين، وهي كما يسميها مالك بن نبي "الدفعة القرآنية الحية" تكون نهاية الدورة الحضارية للأمة الإسلامية،
وأغلب الظن أنه أراد الثانية؛ إذ يقول: "في البقعة المهجورة يفقد العلم كل معناه، فأينما توقف إشعاع الروح يخمد إشعاع العقل، إذ يفقد الإنسان تعطشه إلى الفهم، وإرادته للعمل عندما يفقد الهمة: القوة الإيمانية".
إن الطريق الحضاري مفتوح لمن أراد الدخول، ولن يكون الدخول إلا بطَرْق باب سنن الله في الكون، فمن طرقها دخل وإن كان غير مسلم، ومن لم يطرقها طُرِد وإن كان من أولياء الله الصالحين.
سبيل الخروج من أزمة التخلف
المهمة الأولى: في معالجة هذا التخلف الحضاري ـ الذي يطبق على الأمة الإسلامية ـ هي تصحيح العقيدة وتقويتها في نفوس المسلمين، حتى ينتج عنها ما تقتضيه من تأثير على كل ميادين الحياة، ويرتبط بتصحيح العقيدة تبصير الإنسان المسلم والجماعة المسلمة بوظيفتهم في الحياة لكي لا تتحول حياتهم إلى عبث، ذلك أن العالم الإسلامي اليوم إنما يعاني من وطأة تخلفه هذا، بسبب الغشاوات والحجب الكثيفة التي أسدلت على بصيرته، فأقصته عن معرفة حقيقة الإنسان والحياة التي يتمتع بها، والدنيا التي تطوف من حوله، وعن معرفة المهمة التي خلق الإنسان للنهوض بها في هذه الحياة.
إن تعريف المسلم بهذه الأمور الأساسية، يجعله في منجى من التأثيرات المدمرة، التي تنبعث، بل تتدفق كالسيل، من التيارات الأجنبية التي تتصارع من حوله، ويكسبه الميزان الدقيق الذي يزن به الغث والسمين، ويميز به بين الحق والباطل.
والمهمة الثانية: في طريق الخروج من التخلف، تتجسد في تصحيح القيم الخلقية التي اكتسبت خلال عصور الانحطاط طابع السلبية والتثبيط، فنتيجة لأوضاع التخلف أخرجت كثير من القيم الإسلامية عن مفهومها الحق، فالصبر وهو قيمة إسلامية عظيمة الشأن، تحول إلى دعوة للخنوع واستساغة للمذلة والطغيان، بدلاً من الصبر على مشاق العبادة والجهاد ومصاعب بناء الحياة، والصبر على الأذى في سبيل تحقيق المطامح العظيمة للمسلمين، قال تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) (آل عمران : 142)، (وما ضعفوا وما استكانوا، والله يحب الصابرين) (آل عمران : 146)(23). وقس على ذلك مختلف القيم التربوية التي ينبغي أن تأخذ مفاهيمها الصحيحة، في ضوء الكتاب والسنة وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام.
إن إنجاز هاتين المهمتين يحقق تغييرًا يمتد إلى المساحات كافة، وسائر المكونات النفسية الأساسية: العقلية والروحية والجسدية وكل العلاقات والبنى الداخلية مع الذات ومع الآخرين، والتي تمكِّن الإنسان المسلم والجماعة المسلمة من مواجهة حركة التاريخ.