يُطرح منذ أيام على نطاق إعلامي واسع أمر عشرات الألوف من المعتقلين المصريين على ذمة قضايا سياسية تم إلباسها عنوّة ثوب الجنايات، وتتابعت ردود الفعل كدوائر تنتج عن إلقاء حجر في ماء ظنه كثيرون راكدا. وأدلى كبار رموز أشهر جماعة في مصر بدلوهم، وانقسم الناس بين مؤيد بشدة لهم ومعترض؛ ربما بنفس القدر من الحماس أو أشد.
أما سبب إثارة قضية عشرات الآلاف من المعتقلين فهي رسائل من بعضهم؛ يحثون ويشجعون ويطلبون من القيادات في الجماعة النظر في أمر إخلاء سبيلهم، والسعي لذلك لدى السلطة في مصر كي تنتهي معاناتهم الممتدة منذ سبع سنوات، وبعضهم يطول أمر اعتقاله او حبسه سواء بحكم قضائي أو دونه. وفي المصريين مُشككون في كون الرسائل صدرت عن معتقلين بالفعل، وهؤلاء يقولون إن الرسائل صدرتْ عن الأمن المصري بهدف إحداث بلبلة في الصف، وتصوير قيادات الجماعة على أنها السبب في الوضع المتأزم للمسجونين والمعتقلين السياسيين.
والمتدبر للأمر بهدوء، بعد أن مرت فورته الأشد، يرى أنه طُرح من قبل ويتوقع أن يطرح لمرات كثيرة مقبلة، والناظر في الأمر بدقة يجذب انتباهه عدد من الإشكاليات القاسية على جميع الأصعدة سواء في الشكل أو المضمون، ثم جهة إثارة القضية، والمعنين بها، وطريقة البحث عن حل، وخلط العقلي بالعاطفي، وهو الخلط الذي يجسد كثيرا من سياقات التوجه الثوري اليوم.
كم عدد المعتقلين والمسجونين السياسيين اليوم في سجون مصر؟
إن أول وأقل حق لهؤلاء الذين تقيد حرياتهم ويحبسون عنوة في سجون الظالمين، أول حقوقهم علينا أن نعرف عددهم بالتحديد، أما أن يستمر خطابنا عنهم، بشكل إعلامي وانفعالي بحت، دون أن نحيط مجرد إحاطة لا تقدم ولا تؤخر عمليا بعددهم الحقيقي، فتلك ذروة سنام وقمة المأساة، ودليل الفشل الشديد والخذلان لهم.. قيل إنهم ستون ألفا، وقيل سبعة وثلاثين ألفا، وقيل أقل أو أكثر. وكنا في البداية نتحدث عن قرابة عشرين ألفا، حتى استيقظنا على مقولة متواترة أنهم ستون ألفا بالتمام والكمال. وللأسف نحن لا نعرف كيف نرصد عدد هؤلاء المضارين رصدا أقرب وأميل للدقيق، حتى نعرف عن كم من المُضارين في حرياتهم نتحدث، وبالتالي معاناة الذين يتبعونهم من أسرهم أو عائلاتهم، وهلم جرا.. وهل لهم سند ومعين، بخاصة في الأمور المادية؟ أم أن أُسر للمعتقلين والمسجونين يتخبطون في الخارج كما يتخبط ويتألم أبناؤهم في الداخل؟
فلماذا لا تعمد الجماعة، وفاء لحق هؤلاء المأسورين عليها، في أن تجري إحصاء لهم يحتوي حتى غير المنتمين إليها؛ تقديرا لكفاحهم والثمن الضخم الذي يبذلونه من أرواحهم ودمائهم؟
ثم هل من المناسب أن تمر على هؤلاء قرابة سبع سنوات عجاف، فلما يتم طرح أمرهم يطرحه الإعلام على ساسة الجماعة؛ ولكأن الجماعة نسيت هؤلاء الذين يمثلون حبات قلوبها في السجون؟
وهل من المناسب، بأي حال من الأحوال وضمن أي بعد كان، أن تتأخر قضية الثورة كلها ومستقبلها ومعاناتها وأفقها حتى لا يبقى من كل ذلك إلا استمرار معاناة المعتقلين؟ وفي مثل هذا الطرح، على آلامه، إقرار بأن أمر الثورة انتهى، وأن البحث عن غد المعتقلين وتخفيف معاناتهم وإطلاق سراحهم بأي حال كان هو الأولى.
ألم يكن من الأولى والأجدر أن يتم التدرج في مراجعة الموقف على الساحة السياسية وأفق الحراك لأجل الوصول إلى حل، ومواجهة النفس بواقع الثورة المضني، وأنها كانت محاولة أذكاها عسكريون لأغراض التخلص من الرئيس المخلوع حسني مبارك، ثم إعادة المنظومة المسير لكن دونه ونجله جمال، فلما تمادت الأمور وازداد الحراك استخدم هؤلاء الخطة البديلة، وهي ترك الجماعة للوصول للحكم لإفشالها ثم معاودة المسير بدونها؟ وهذا السيناريو وإن اختلفت بعض تفاصيله في أذهان البعض، أو وافقت الحقيقة مجمله، فإن الاتكال على أن المسير الثوري محفوظ من جانب رب السماوات والأرض دون عمل؛ أودى بفرص تحسين ما تبقى من واقع الثوريين على أرض الحقيقة، بعيدا عن الآمال والأحلام البعيدة.
أما التمادي في القول بأن الهجمة الغربية شرسة وأن تحالف القوى العالمية والإقليمية لا يسمحان بأي حراك؛ فإنما هو كالنافخ في نيران مستمرة لكي تمعن في النيل منه وإيذائه، فإن كانت الهجمة شرسة وما إليه، فأين كانت العقول منذ البداية من إدراك ذلك؟ ولماذا نحقق لأعدائنا مرادهم بأيدينا ثم نتفرغ لنرثي لحال أنفسنا، ونترك المضارين في بلوائهم بل نعدهم بعدم وجود حل لدينا، أو أننا بذلنا ما لدينا فلم ننجح، وأن الحل بيد المعتقلين أنفسهم فليساعدوا به أنفسهم؟
ويبقى أن القضية المطروحة إعلاميا تعلن بنفسها عن نفسها عن الفشل السياسي التام في معالجة الأمور، حتى استفحلت ووصلت إلى هذا التداخل المرير.
إن موازنة القوى والنظر في الغد نظرة حقيقية، رغبة في تخفيف معاناة الآلاف الذين ينبغي حصرهم بدقة، وأخذ الأمر على محمل الجد المطلق في البحث عن حل لهم؛ يساوي أن إنقاذ أحدهم من التهلكة أهم من مسار ثوري معطل في الأساس، وأن المسؤولية لا يجوز أخلاقيا التبرؤ منها، وبالتالي لا يجوز نفض اليدين منها سياسيا.
إن تحديد حجم الضرر والمسارعة في اتخاذ خطوات لعلاجه أهم وأفضل من المضي في الأعذار التي لا تغني ولن تسمن من جوع لهؤلاء، وإن مصارحة النفس بالقدرات والإمكانيات أفضل بمراحل من التواكل بتصوير الأمر للنفس والآخرين على أنه لا حل له على الإطلاق.
وفق الله المخلصين إلى الاعتبار من الفشل الماضي للوصول إلى آفاق حل مغايرة في غد وبعد غد، والأخذ بيد المعتقلين ومعرفتهم بدقة قبلها، ثم الأخذ بأيديهم نحو النور والحرية.
1
شارك
التعليقات (1)
مصري جدا
الأحد، 01-09-201905:21 م
لا أدري لماذا حتى اللحظة تخاطب النخبة الفكرية المدنية والإسلامية بقايا قادة المعارضة ،،، هذا الخطاب مستمر منذ العام 2913 ،، يعاد تدويره مرة بعد مرة لكنه موجه لنفس الجهة هي بقايا قيادات المعارضة في المربعين الإسلامي والمدني ،، والنتيجة ،، لا شئ ،، صفر بل تحت الصفر ،،، آلم تدرك النخبة الفكرية ان منصات القيادة القديمة هي شريكة الفشل ولن تكون شريكة النجاح ،، خطاب النخبة لمنصات القياد اشبه ما يكون للخطاب الموجه إلى طالب لم يحصل الدرجات المطلوبة نظرا لمستواه الدراسي والمهاري والسلوكي وأن ما حققه من درجات هو كل ما يستطيع ،، ومع ذلك مازلنا نقول له حقق الدرجات الأعلى درجات التفوق والتميز ،،، نحن بحاجة لمنصات قيادة جديدة بحجم التحديات ومستوى الطموحات ،،، بحاجة لأفكار وإجراءات تدعم ظهور منصات جديدة ،،،