هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
وأخيراً تنفس السودانيون الصعداء، وتمكنوا من التوافق على بيان
دستوري وخارطة طريق للمرحلة الانتقالية؛ كما استطاعوا تشكيل مجلس سيادي عسكري-
مدني؛ وتعيين الخبير الاقتصادي المعروف عبد الله حمدوك رئيساً للحكومة التي من
المفروض أن تتشكل في غضون أيام؛ كل ذلك بعد أشهر عدّة، خيّم عليها التوتر والتشنج،
والاتهامات المتبادلة؛ إلى جانب الاعتداء على المعتصمين والمتظاهرين، ومقتل
العشرات من السودانيين المطالبين بالتخلص من النظام الدكتاتوري الفاسد المفسد.
ولكن
كل ذلك ليس معناه أن القضايا المختلف عليها قد تم تجاوزها تماماً، وأن ما حصل هو
المثال الذي تطلع إليه السودانيون، ولم يكن هناك أفضل مما كان. فهناك قوى سودانية
فاعلة لم تنضم إلى الاتفاق، وهناك قوى سجلت ملاحظاتها عليه. وهناك تحديات كبيرة
ستواجه المجلس السيادي والحكومة من دون شك على صعيد كيفية معالجة المشكلات الناجمة
عن النزاعات الداخلية، لا سيما في دارفور والجنوب والشمال. كما أن هناك تحديات
كبيرة تنتظر الحكومة منها: كيفية تفعيل العجلة الاقتصادية عبر الاستفادة الرشيدة
من الموارد الطبيعية والبشرية؛ وتمكين القطاع المصرفي من الاستمرار وتعزيز الثقة
به عبر إصلاحه وفق المقاييس العصرية؛ وتأمين فرص التعليم والعمل للشباب؛ والحدِّ
من خطر الانتكاسات أو العودة ثانية إلى الحكم الديكتاتوري، خاصة أن للسودان أكثر
من تجربة في هذا المجال.
ولكن
مهما يكن، فالنهاية السعيدة، حتى الآن على الأقل، التي تمثلت في احتفال 17
آب/أغسطس 2019 بمناسبة التوقيع على الاتفاق بين المجلس العسكري وإعلان قوى الحرية
والتغيير، وأداء القسم لاحقاً، هي موضع ارتياح السودانيين ومحبيهم الذين يتمنّون
لهم كل الخير والتوفيق.
هناك
عوامل عدة ساعدت السودانيين، ومكّنتهم من تجاوز المرحلة الصعبة بأقل الخسائر
الممكنة؛ وذلك مقارنة مع الحالة السورية التي ما زالت مفتوحة على جميع الاحتمالات
التي لا توحي بقرب الخلاص.
في
مقدمة هذه العوامل يأتي الموقف الوطني للجيش السوداني الذي رفض أن يتحول إلى أداة
سلطوية قمعية في مواجهة الشعب. ورغم بعض التصريحات والمناوشات التصعيدية، ظلّ
الاتجاه العام متمثلاً في الإصرار على ضرورة التوصل إلى اتفاق، ولو ضمن الحدود
الدنيا.
هذا
بينما كان الجيش العقائدي في سوريا أداة بيد النظام. وهذا الأمر لم يكن وليد
اللحظة، بل هو امتداد لمشروع قمعي معقّد، امتدّ على مدى عقود، بدأ به حافظ
الأسد بصورة أساسية، ورسّخ قواعده، ولم يكتف بذلك فحسب، بل استخدم الجيش في
المواجهة مع المواطنين في حلب وحماة، حتى بات اسم الجيش مرتبطاً في ذاكرة السوريين
بالقتل والتدمير والنهب وانتهاك الحرمات.
أما
الأمر الثاني الذي ساعد السودانيين، فقد تجسّد في وجود الأحزاب السياسية القوية
نسبياً؛ وتوفر نضج سياسي على قدرٍ عالٍ من المسؤولية؛ والحكمة التي تميز بها
الناشطون في منظّمات المجتمع المدني الذين تمكنوا من تنظيم الفعاليات الشعبية،
واستطاعوا المحافظة على زخمها وقياداتها، وتحلّوا بالصبر والنفس الطويل في
الاحتجاجات والمفاوضات، واتسموا بالقدرة على تدوير الزوايا، وتجاوز العقد
المستعصية بحلول واقعية مقبولة. وكل ذلك لم يكن ممكناً لو لا تمتّع قيادات الجيش
بروح المسؤولية، والحرص على تجنّب تحويل الخلافات إلى صراع دموي كان من شانه فيما
لو حدث، لا سمح الله، أن يلتهم الإمكانات والإمكانيات.
أما
بالنسبة إلى الحالة السورية، فقد كان الوضع مختلفاً إلى حدٍ كبير. فمع بداية
الثورة السورية في ربيع عام 2011 لم تكن الأحزاب الموجودة قادرة على التأثير في
الأحداث أو قيادة مظاهرات الشباب التي عمت معظم المدن والبلدان السورية. فهي
(الأحزاب) إما كانت مدجّنة ضمن “الجبهة الوطنية التقدمية” بقيادة حزب البعث مقابل
فتات سلطوي لا يُذكر، أو أنها كان ضعيفة، معزولة، لا تستطيع أن تشكّل حالة معارضة
فعلية في مواجهة نظام قمعي شمولي، مستعد للفتك بالمعارضين الذين يمثلون
بالنسبة إلى النظام احتمالية خطر مستقبلي. هذا ما فعله مع حزب العمل الشيوعي، ومع
الحزب الشيوعي- المكتب السياسي، ومع جماعة الإخوان المسلمين. أما الأحزاب الكردية،
فقد كانت أحزباً مطلبية، إذا صح التعبير، تدعو إلى رفع الظلم عن الكرد، والاعتراف
بحقوقهم القومية المشروعة، من دون أن تشكّل خطراً على النظام، بل إن مجموعة من هذه
الأحزاب كانت متناغمة مع سياسة النظام، تحرص على التزام توجيهاته، وعدم تجاوز
الخطوط الحمراء.
ونتيجة
لهذه الوضعية، واجهت جهود تشكيل المجلس الوطني السوري عام 2011 مصاعب كبرى، منها
تحدي التوفيق بين أمزجة المعارضين المستقلين الأفراد، وذلك نتيجة ضعف الأحزاب
المعارضة غير المدجنة، بسبب ضعفها وترهّلها ومعاناتها من خلافات داخلية عقيمة.
ولكن
مع ذلك تشكّل المجلس الوطني السوري بفعل الضغط والتجاوب الشعبيين، وأدى دوراً لا
بأس به رغم الخلافات التي عانى منها، والصعوبات التي واجهها. وكان في طريقه نحو
التحول إلى فريق سياسي وطني متكامل، يعبر عن التنوع السوري المجتمعي والسياسي.
إلا
أن الذي تبين لاحقاً، هو أن القوى الإقليمية والدولية لم تكن تريد انتقالاً
حقيقياً لسوريا نحو دولة مستقرة آمنة، تضمن الحرية والكرامية والعدالة لمواطنيها،
لذلك ارتأت تجاوز المجلس الوطني لتفرض الائتلاف على السوريين، وتفتح بذلك المجال
أمام التدخلات الخارجية من كل حدب وصوب. هذا مع ضرورة الاعتراف بأن كل ذلك لم يكن
ممكناً، أو على الأقل كان تنفيذه سيأخذ المزيد من الوقت، لولا استعداد بعض
السوريين للسير مع الأجندات الإقليمية والدولية على حساب أولويات شعبهم.
الأمر
الثالث الذي استطاع السودانيون بفضله تجاوز المخاطر بأقل الخسائر، هو الحرص
المشترك على عدم استغلال الحساسيات المناطقية والمجتمعية، والتركيز على وحدة
السودانيين، والحرص على مستقبل أفضل لهم ولأجيالهم المقبلة من دون أي تمييز.
أما
في سوريا، فقد حاول النظام منذ اليوم الأول دفع الأمور نحو حرب أهلية طائفية
بغيضة، معتمداً استراتيجية ارتكاب المجازر في المناطق المختلطة، ودفع الأمور
باتجاه ميدان العسكرة المفضّل لديه. وقد اعتمد في هذا المجال استراتيجية إبعاد
المكونات السورية الأخرى عن الثورة، ما عدا المكوّن العربي السني، ليصور لأتباعه، والرأي
العام الدولي بأن ما يجري في سوريا هو صراع بين نظام علماني حام للأقليات،
وتنظيمات جهادية تكفيرية إرهابية. وقد أفلح في تحقيق ذلك إلى حد كبير لأسباب عدة
منها: استعداد الدول المؤثرة لأسبابها الخاصة، لتقبّل هذه الرواية. كما أن ابتلاع
بعض القوى الإسلامية للطعم، وعدم تقديرها لما هو مخطط، ساعد هو الآخر النظام على
تحقيق خطته، هذا إلى جانب إخفاق المعارضة في طمأنة المكوّنات السورية بالأقوال
والأفعال، والحديث في هذا المجال يطول، لذلك نتركه إلى مناسبة أخرى.
أما
الأمر الرابع، فهو يخص الدور اللافت المتميز للاتحاد الأفريقي تحديداً الذي كان
حريصاً منذ اليوم الأول على مساعدة السودانيين، وتمكينهم من التوصل إلى اتفاق. وقد
أدت اجتماعات أديس أبابا دوراً مهماً في توحيد كلمة السودانيين، وتجاوز المخاطر
والتهديدات، والوصول إلى بر الأمان، على الأقل في المدى المنظور.
ومرة
أخرى، لابد من القول إنه لولا حرص قادة المؤسسة العسكرية السودانية على المحافظة
على مقدرات بلادهم، وأمن شعبهم، لأخذت الأوضاع مسارات خطيرة لم تكن تضمن أي خير
للسودان والسودانيين.
أما
في الحالة السورية، فقد قرر النظام منذ اللحظة الأولى تقديم أوراقه إلى النظام الإيراني
وروسيا، وسدً أبواب جميع الحلول الممكنة. هذا مع العلم أن مطالب السوريين في
البداية لم تتجاوز الإصلاح الذي كان يطالب به الجميع.
وعجزت
الجامعة العربية عن تقديم مبادرات جادّة نتيجة تعنّت النظام السوري أولاً، والخلل
البنيوي في النظام العربي الرسمي ثانياً، الأمر الذي دفع بالقضية السورية نحو
التدويل، لتصبح سوريا لاحقاً، وكما نجدها اليوم، ساحة للتدخلات المباشرة من جانب
روسيا والولايات المتحدة الأمريكية ومعها الدول الغربية، إلى جانب كل من تركيا
وإيران، وإسرائيل بصورة غير مباشرة.
من
واجب السودانيين علينا، ومن حقنا، أن نفرح للإنجاز الكبير الذي حققوه بفضل تضحيات
أجيال من المناضلين. وما نتطلع إليه هو أن تستمر الفرحة، علّها تكون شعاعاً يضيء
مساحة الأمل لشعوب منطقتنا، ومنها الشعب السوري؛ ومصدر إلهام، يؤكد أن المفاوضات
والمماحكات السياسية مهما كانت صعبة ومعقدة، تبقى أفضل الطرق للوصول إلى توافقات
تنقذ البلاد والعباد، وتمهّد الطريق أمام مستقبل واعد للأبناء والأحفاد.
عن صحيفة القدس العربي اللندنية