هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بين السياسة والمسرح صلات قديمة قدم نشأة أول أشكال التنظيم الاجتماعي القائم على علائق الأمر والطاعة. وقد كتب الناقد البريطاني الراحل ريموند وليامز في هذا الشأن نصوصا مرجعية حددت تجليات العلاقة بين السياسة والمسرحة، أي اعتماد السلطة السياسية، باتصال زمني لم ينقطع منذ فجر التاريخ إلى اليوم، على الإخراج المشهدي الرامي إلى النفاذ إلى الوجدان الفردي والجماعي عبر التأثير أو الإبهار. ويتجلى هذا الفعل المسرحي في مشاهد متنوعة تشمل، على سبيل المثال، مراسم أداء اليمين، والجلوس على العرش، والجنازات المهيبة، واحتفالات اليوبيل الملكية، وتحية العلم، وعزف النشيد الوطني، وحفلات استقبال الحكام الأجانب وبروتوكول تبادل الهدايا، الخ.
هذا في مجال الجد. أما في مجال الطرافة، فإن المسرحة تبلغ مداها أثناء الحملات الانتخابية. وقد سبقت أمريكا بقية الديمقراطيات في تحويل الانتخابات إلى فرجة ممتعة. أولا، لأن طول المسار الانتخابي الرئاسي (حوالي عام كامل بدءا من التمهيديات) وسرعة تجديد ثلث أعضاء الكونغرس (كل عامين) قد أوقعا البلاد في فخ حملة انتخابية دائمة هي من أسباب انسدادات النظام السياسي الأمريكي. وثانيا، لأن للأمريكيين ولعا بالزينة والاحتفال يدفع باتجاه تحويل الحملات الانتخابية إلى مهرجانات تعزف فيها الموسيقى وتطلق آلاف البالونات الملونة.
ولهذا كثيرا ما يشهد الأمريكيون التجمعات الانتخابية مع عائلاتهم وأطفالهم تماما كما يفعلون عندما يذهبون لمشاهدة مباريات البيسبول أو كرة القدم الأمريكية.
وليست الحملات الانتخابية في بريطانيا على هذا القدر من المشهدية والفرجوية، ولو أن لها تقاليد شعبية وصف جوانب منها السياسي هارولد نيكولسون في مذكراته التي وثقت للحياة العامة في بريطانيا من عام 1930 حتى 1968. على أن بريطانيا الانتخابية قد ازدانت منذ عام 1983 بمنظر طريف ممتع هو الظهور اللافت لحزب «مونستر ريفينغ لوني بارتي» (الذي يمكن ترجمته، تجوّزا، بـ»حزب المسخ المعتوه المعربد»).
وقد دأب مرشح هذا الحزب الفكاهي على حضور اجتماعات مرشحي الأحزاب الكبرى بملابس براقة يغلب عليها الأصفر الفاقع، وعلى الطواف على دراجة مزينة تنوء بالبيارق والأجراس. وعندما توفي مؤسس الحزب، الموسيقي ديفيد سوتش، حزن الكثيرون لأنه كان يدخل البهجة على النفوس. ولكن الحزب لا يزال نشطا. ورغم أن برامجه الانتخابية الساخرة تتقصد الحط من شأن الساسة والمؤسسات، فإن لديه اقتراحات جادة تشمل إلغاء الدين الوطني بتحويله وتحميل عبئه إلى بطاقات الائتمان الشخصية، وتوفير المال العام بتشغيل الغواصة النووية «ترايدنت» في الويكند فقط، والإمعان في تعقيد النظام الضريبي المعقد أصلا بهدف حرمان الشركات العالمية من استغلال الثغرات القانونية التي تمكنها من دفع نسب ضرائب ضئيلة جدا مقارنة بأرباحها الخيالية.
على أن كل هذه الطرافة الأنغلو-الأمريكية لا تضاهي طرافة المشهد الانتخابي التونسي الذي تزاحم فيه، في المرحلة الأولية، مواطنون من جميع المناحي والمهن ومن مختلف الفئات الاجتماعية والمستويات الذهنية. فقد كان بين حوالي مائة شخص قدموا ملفات ترشيحاتهم للرئاسيات مهندس في وكالة أبحاث الفضاء الأمريكية (ناسا)، إلا أن النجومية الخاطفة (لبضع دقائق) قد كانت من نصيب الظرفاء وخفاف الظل: مرشح يقول إن لديه حلا للقضية الفلسطينية وإنه أودع الملف لدى السلطات، ولكن إسرائيل تعرقل وترقد في الخط… وآخر يقول إنه قادر على إدارة البلاد بالتلفون. وحكم في الملاكمة يتعهد باختصار البرلمان في مجرد عشرين نائبا. وآخر مهنته رعي الغنم، وكنيته «المكشلط»، يسأله الصحافيون عن برنامجه الانتخابي فيكتفي بطمأنتنا بأنه معروف! إنه البرنامج «بتاع الفلاحين والشباب والأمراض المزمنة والشغالات». أما المرشح الأبعث على الأمل فهو ذلك الذي قال حرفيا: «سأقدم لتونس ما يبهر العقل ويدهشه». سأله الصحافيون: حدد لنا ما هو؟ فأجاب بالفصحى: «أنا أدرك السر الذي يتحكم في تطور الدول، ولن أكون به على الشعب الذي أحترم وأعزّ ضنينا»!
عن صحيفة القدس العربي