هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
دخلت مطعما لبنانيا كبيرا في بيروت برفقة مجموعة من الزملاء ظهر يوم
الخميس قبل الماضي. كان السؤال الأول للعاملين في المطعم: ما هي كلمة السر لشبكة
الواي فاي؟!!.وكانت المفاجأة الغريبة والمحزنة بالنسبة لنا، أنه لا يوجد واي فاي
في المطعم!.
غالبية
المطاعم الكبيرة أو حتى المتوسطة، وأحيانا الصغيرة صار لديها «واي فاي» لتمكين
الزبائن من الدخول إلى شبكة الإنترنت.
طبعا
ليس كل الزبائن لديهم قدرة على شراء باقات إنترنت، خصوصا إذا كانوا في الخارج، وبالتالي
يصبح الواي فاي مهما جدا.
وجود
«الواي فاي» في أي بيت صار أمرا مهما جدا. أعرف أسرا كثيرة، اشترط أولادها الصغار
وجود «راوتر» في منزل جدهم بالريف ليقوموا بزيارته. أحدهم يقول: كيف نظل بلا شبكة
إنترنت طوال إجازة العيد أو المصيف؟!.
بعض
الدول الأوروبية قطعت شوطا طويلا جدا في تعميم «الواي فاي» وتسهيل دخول المواطنين
عليه. زميلة عادت من الدانمارك أخيرا تقول إنها تتفاجأ بهاتفها وهي تسير في
الشوارع الرئيسية، وقد التقط إشارة الواي فاي، لأنها سبق أن دخلت هذه الأماكن من
قبل، وبالتالي صار الدخول آليا.
دول
أخرى صار لديها الكثير من «النقاط الساخنة» في الشوارع المرتبطة بالواي فاي،
وبالتالي يمكن لأي شخص أن يتصل بالإنترنت بسهولة.
«الواي
فاي» صار صرعة عالمية، وبقدر فوائده الكثيرة، التي تجعل الشخص متصلا ومتواصلا مع
العالم أجمع، فإن عيوبه خطيرة أيضا.
جرب
أن تدخل أي بيت أو وسيلة مواصلات أو حتى لقاء لأصدقاء، ستجد الجميع منعزلا مع جهاز
تليفونه، ولا يشعر بما يحدث حوله بالمرة.
يستوي
في ذلك الابن أو الابنة المراهقين، أو الطفلة الصغيرة. أعرف أطفالا صغارا، لا
يتجاوزون السنوات الخمس صار معهم أجهزة هواتف محمولة ومتصلة بالإنترنت، ووصلوا
تقريبا إلى مرحلة الإدمان، التي تحتاج فعلا إلى علاج حقيقي!
في
الماضي كنا نغضب ونشكو كثيرا، لأن الأسرة بأكملها تتجمع أمام جهاز التليفزيون، ولا
تتحدث مع بعضها البعض، ولم نكن ندرك وقتها أن هذه الأسرة تجلس معا، وتشاهد برنامجا
واحدا. الآن اختلف الوضع تماما. كل شخص داخل الأسرة الواحدة يعيش في عالمه الخاص.
أغلب الظن أن الأب أو الأم لا يعرفان ما هي المواقع التي يدخل عليها أبناؤهم، وما هي
الموضوعات التي يقبلون عليها، وما هي القيم التي اكتسبوها؟!.
السؤال
الذي يشغلني هذه الأيام هو: إذا كنا لا نستطيع الاستغناء عن الواي فاي، فكيف كنا
نعيش قبل وجوده؟!.
قبل
الهواتف المحمولة كانت الحياة أبسط كثيرا، والوقت فيه متسع للتأمل. هذه الهواتف
لعبت دورا مهما في تقريب المسافات وتقديم العديد من الفوائد للبشرية، لكنها لعبت
دورا أسوأ في تحويل البشر إلى كيانات منعزلة، كل شخص يغرق في عالمه الخاص، لدرجة
أن شلة الأصدقاء تتفق على اللقاء كي يعرفوا آخر أخبار بعضهم البعض، والمفاجأة انهم
حينما يلتقون فلا يتكلمون كثيرا، بل يمسك كل منهم بهاتفه ويدخل في شرنقته الخاصة!!.
بعض
الزملاء الصحفيين، لا يستطيعون الاستغناء عن الهاتف والواي فاي، حتى وهم يحضرون
مؤتمرات كبيرة ومهمة.
قبل
الواي فاي كانت الحياة لذيذة وهادئة وكان لدى الناس وقت كبير للقاء والتزاور والتعارف
والحديث المباشر وجها لوجه.
قبل
الواي فاي كانت الحياة والعلاقات الاجتماعية أكثر حميمية مما هي الآن. صرنا الآن
نتبادل رسائل معلبة و«إيموشنات» بلا روح، ونرسل لبعضنا البعض رسائل أو صورا موحدة
خالية من أي مشاعر خصوصا في الأعياد والمناسبات.
قبل
الواي فاي كانت الحياة أكثر هدوءا وأقل اندفاعا، وأكثر جودة. قد يقول البعض إن كلامي
يحمل رؤية متشائمة من رجل بدا يطعن في السن، ولا يدرك عصر السرعة في كل شيء!.
قد
يكون ذلك صحيحا، لكن أخشى على الأجيال الجديدة أن قواعد الواي فاي والانعزال التام
في قوقعة الإنترنت ستترك أثرا كبيرا على حياتهم ومشاعرهم وقلوبهم، وتفقدهم الحياة
الطبيعية التي عشناها، حينما كنا في مثل أعمارهم!.
أقول
كل ذلك، وأنا أيضا غارق في عالم الواي فاي ولا أستطيع تخيل الحياة بدونه، فهو يمكنني
من معرفة آخر أخبار العالم ثانية بثانية، وصار مهما جدا لمهنتي وعملي، ورغم ذلك فإنني
أستطيع أيضا رؤية الجانب المظلم، لهذا التقدم التكنولوجي، حيث يدمر الروح ويقطع
علاقات الناس العادية.
عن صحيفة الشروق المصرية