هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
رحل الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي، بعد نحو قرن من الحياة الزاخرة بمراحل ساخنة بثقلها السياسي متعدد الأنفاس والألوان. الباجي الإنسان والمحامي والسياسي وُلد من رحم مرحلة اتسمت بتكوين خاص في مسيرة حياته الخاصة والعامة. هو من مواليد مدينة تونس العاصمة التي جمعت خصائص مميزة، احتفظت بتراثها العربي الذي لم تغادره الملامح الأندلسية في الثقافة والعمران والفن. كان من طلبة المدرسة الصادقية التي جمعت بين العلوم الدينية والإنسانية، ثم التحق بجامعة «السربون»، حيث تخرج من كلية القانون.
علاقته بالحبيب بورقيبة المناضل الوطني بدأت أبوية فكرية وسياسية. بعد حصول تونس على الاستقلال وإنهاء مرحلة حكم البايات وقيام الجمهورية برئاسة الحبيب بورقيبة، اختاره ليكون أحد أعضاده، كما كان يطلق الحبيب على الرجال الذين يساعدونه في قيادة الدولة الوليدة.
الحبيب بورقيبة كان
مدرسة خاصة في القيادة والسياسة، واختط منهجا تربويا هو نتاج تجربته وثقافته
وتعليمه، هدف إلى تغيير المجتمع التونسي وتطويره على أسس مبتكرة وتحديثية دون
قطيعة مرتجلة مع مكونات المجتمع.
استعان الحبيب بورقيبة
في مرحلة النضال من أجل الاستقلال بنخبة سياسية كبيرة ساهم في تكوينهم السياسي
والفكري، وشاركوه في تحقيق الأهداف الوطنية عبر مرحلة امتدت لعقود من العمل
السياسي الحزبي والإداري، وقد أجمع أغلبهم عليه كأب وقائد للحزب والدولة. التجربة
التونسية لها تفردها وخصوصيتها بين التجارب العربية والأفريقية بفضل عقلية الحبيب
بورقيبة، فقد تبنى سياسة التدرج والواقعية التي صاغها في مقولته السياسية «خذ
وطالب»، وكان همه تونس، ولم يتطلع إلى أداء دور عابر لحدود بلاده، وكان يكرر أن
التقدم يبدأ بتغيير الأدمغة عبر التعليم والتطوير الاقتصادي وتحرير المرأة وتجاوز
التكوينات الاجتماعية الضيقة التي تعرقل الاندماج الوطني الشامل.
الباجي قايد السبسي كان أحد أفراد النخبة التي شكلت القوة التي اعتمد عليها بورقيبة في تحقيق مشروعه السياسي والإداري، حيث تولى وزارات الدفاع والداخلية والخارجية وسفارة تونس في فرنسا. النخبة التي قادت «الحزب الاشتراكي الدستوري التونسي»، كان لها تكوين ثقافي وفكري مكنها من استيعاب مفاهيم الزعيم بورقيبة، لكنها في الوقت ذاته امتلكت صوتا ورأيا داخل الحزب، ما جعلها أقرب إلى الجبهة. صالح بن يوسف الذي شارك بورقيبة مبكرا في العمل النضالي ضد فرنسا المحتلة، انجذب إلى التيار القومي الناصري الذي كان بورقيبة يرى فيه شطحات سياسية، ورأى أن المهام الوطنية أولا، وكان يطلق على «حزب البعث العربي الاشتراكي»، «حزب العبث العربي»، وانتهى الخلاف بين الرجلين بورقيبة وابن يوسف إلى نهاية حياة الأخير. النخبة السياسية داخل «الحزب الدستوري» لم تكن مجرد تابع مطيع للزعيم المؤسس للحركة التونسية الجديدة، بل كانت صفوة مثقفة تبنت رؤيته، لكنها شكلت خلايا رأي داخل الحزب. قامات فكرية مثل الحبيب بو العراس، ومحمد المستيري، ومحمد مزالي، والباجي قايد السبسي، وأحمد بن صالح، والحبيب بن يحيى، كانت لهم مبادرات سياسية وفكرية، لم تصطدم بأفكار الرئيس بورقيبة في مجملها، لكنها مثلت اجتهادات من داخل الحزب. بالطبع تطور الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية فرض مراجعات تنوعت نسبتها داخل النخبة الحزبية، منهم من ذهب إلى حد الخلاف مع الرئيس، ومنهم من ظل يلتزم بالولاء الكامل له مع التعبير العلني أو السري عن آرائه في مسيرة الحزب وسياسات الرئيس بورقيبة، خصوصا الاقتصادية.
محاولة الانقلاب
العسكري سنة 1962 هزّت النظام، وكذلك الضغط السياسي والإعلامي المصري رفعت سقف
المخاوف، وجعلت الرئيس يزيد من قبضته على الحزب والدولة، واتسع دور الجهاز الأمني،
وبدأت شكوك الرئيس في من حوله تزداد. مؤتمر «الحزب الاشتراكي الدستوري» سنة 1972
شكل منعرجا نوعيا في مسيرة تونس السياسية. أصبح لبعض عناصر النخبة صوت علني يعبر
عن توجهات جديدة داخل الحزب، بل وصل الأمر إلى حد بروز تيار تنظيمي جديد، وانبثقت
«حركة الديمقراطيين الاشتراكيين» بقيادة أحمد المستيري، وجُمدت عضوية الباجي قايد
السبسي في «الحزب الاشتراكي الدستوري».
ربطتني بالرئيس الراحل
الباجي قايد السبسي علاقة ودية، عندما كان متقاعدا تاركا للسياسة، نلتقي كلما
زرت تونس عندما كنت سفيرا لليبيا في روما، وبعد ذلك وزيرا للخارجية. حرصت على أن
أناقش معه قضايا المغرب العربي، وكذلك العلاقات الليبية التونسية، والمشكلات التي
كنا نعالجها مع الدول الغربية.
وبعد تعيينه رئيسا لوزراء تونس بعد الثورة، تكررت لقاءاتنا، ولم تنقطع بعد أن أصبح رئيسا للجمهورية،
كان بالنسبة لي صوت عقل وخبرة ورؤية متميزة. تنقل الرئيس الراحل بين محطات سياسية
على مدى عقود.
عمل في مواقع عدة مع بورقيبة، اقترب وابتعد وتولى رئاسة مجلس النواب مع الرئيس زين العابدين بن علي، وغادر المسرح السياسي بعد أن اختلف معه لأسباب عديدة، وبعد تولي السيد فؤاد المبزع الرئاسة المؤقتة للجمهورية عينه رئيسا للوزراء ليعود إلى مسرح سياسي تونسي غير مسبوق؛ بلاد تعيش حالة من السيولة الساخنة وتعقيدات تلد أخرى، وإرهاب يهدد كل البلاد، وهيجان مسلح في الجارة الأقرب ليبيا. هنا عاد السبسي بقوة جديدة قديمة وعقلية تكونت في محفل الولادة وسن الرشد التونسي، ليخوض معركة الانتقال السياسي بالغ التعقيد. الباجي قايد السبسي لم يكن مجرد مريد صامت ينفذ ما يأمره به أستاذه الزعيم، بل تبنى «منهج» بورقيبة، ولم يكن مجرد تابع ضمن قائمة المنفذين، ولم يقبل أن يعيش في جلباب المجاهد الأكبر. كانت الرحلة هذه المرة عبر أمواج من سائل آخر. أحزاب تتوالد بوجوه وأفكار وطموحات وأطروحات سياسية وعقائدية مختلفة، والبلاد في حالة هشاشة شاملة.
تقدم السبسي وهو مسلح بمنهج خبره في الممارسة، الذي يقوم على أساس الوسطية، و«خذ وطالب»، والقدرة على تكوين الأجسام السياسية القادرة والمناسبة. تعايش مع حكومة الترويكا، وأسس «حزب نداء تونس»، وتقدم لانتخابات الرئاسة التي فاز فيها متقدما على «حزب النهضة» الإسلامي. رغم الخلاف الكبير بين الحزبين تمكن الباجي من ردم حفر الصدام، وتقدم إلى حلقة التوافق مع «النهضة». بعد رحيل البورقيبي الأخير، هل سيظهر ثالث من «الدستوريين البورقيبيين»، ليقود المرحلة المقبلة، أم ستكون البلاد على موعد مع قيادة من جيل جديد بعقل آخر ومنهج يبدعه واقع غير مسبوق.
عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية