هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مثل مراهق سياسي، أو حتى مثل عاطل عن العمل، بالبلدي "مش لاقي له شغله"؛ ما أن انفض مولد المنامة، حتى سارع جاريد كوشنر كبير مستشاري الرئيس الأمريكي السياسيين في البيت الأبيض، إلى الإعلان أول أمس عن أن بلاده ستعلن عن الخطوات التالية في "صفقة القرن" الأسبوع القادم.
هذا يعني بأن كل ما رافق انعقاد تلك الورشة من ردود فعل ومواقف، لم تصل إلى ذلك الرجل ولا لإدارته، التي يبدو أنها ما زالت تعيش "نشوة" النصر الانتخابي قبل ثلاث سنوات، وأنها بذلك ما زالت تنام في بحر عسله الأسود، فحتى إسرائيل نفسها، لا ترى ما يراه كوشنر وصحبه من متصهيني الإدارة الأمريكية الحالية، وهي تترك مجمل هذا الملف الذي تعرف قبل غيرها، بأنه ليس أكثر من ملهاة لهواة سياسيين، ساقهم القدر في طريقها ليقوموا بخدمتها بالمجان، وهي تعرف بأن طحن كوشنر في الماء لن يجلب لا طحينا ولا خبزا، بل ربما أن "رجال" البيت الأبيض المعنيين بالصفقة أكثر من غيرهم، لا يسعون من ورائها سوى للمال الخليجي.
أما إسرائيل فأغلب الظن أنها تدرك بأنها كلما توغلت في اللحم العربي وتوسعت إلى ما وراء حدود فلسطين التاريخية، ستواجه الجحيم، بما يحمل بين طياته من عامل فنائها التاريخي، ومن يدقق في الرؤية يجد، بأنها_أي إسرائيل_ حين توغلت في الأرض العربية عام 1967، وجدت نفسها في حالة عداء تام مع محيط فلسطين العربي، حتى إن انسحابها من سيناء وتوقيع اتفاقية السلام مع مصر بعد ذلك بعقد من السنين، لم يحل دون أن تظل إسرائيل ممنوعة من الصرف الطبيعي عند مئة مليون مصري، وكذلك حالها مع الشعبين السوري والأردني وحتى اللبناني.
وإسرائيل حين توغلت عام 1982 في لبنان، واحتلت جنوبه، نشأ عن ذلك ظهور حزب الله والمقاومة اللبنانية التي ما زالت تمثل "عدوا مرا" ينغص عليها حياتها ليل نهار، لذا فإن وصول إسرائيل محمولة على كفي كوشنر إلى الخليج العربي، سيضعها مباشرة ليس في مواجهة مع شعوب الخليج وحسب، بل ومع إيران، وأمريكا ذاهبة، وإسرائيل "باقية" لكن ليس وفق الوصف المقيت لوزير خارجية البحرين، لكنها باقية في مواجهة استحقاق هذا التوسع المحتمل.
والتوسع أو الخروج من جحر الأفعى، إنما هو ضد طبيعة إسرائيل التي نشأت قبل سبعة عقود بحبل سري مربوط مع الغرب، ومن ثم مع أمريكا بالتحديد، لذا فقد ظلت منطوية على ذاتها، وانفتاحها على المحيط الجغرافي له ثمن، لا بد أن تدفعه، لا أن تفرضه، وفي حالة الفرض لابد من رد فعل وخيم العواقب.
لا يمكن إذا لإسرائيل أن تتجاهل الشوكة التي في حلقها، ونقصد بذلك فلسطين، وتخرج إلى المحيط، آملة في مزيد من التوسع، دون أن تتعرض لما هو أسوأ، وفي حقيقة الأمر، فإنه لكل شيء ثمن، ما لم تدفعه اليوم فلا بد لك أن تدفعه غدا، ولكن بشكل مضاعف.
وحتى بقاء الحال على ما هو عليه، في هذا الزمان، لا يعني بأن الأمور ستسير في اتجاه واحد، ففلسطين، شبّت عن طوق التبديد، وحتى لو ظل وضعها السياسي هكذا، أي أكثر من حكم ذاتي وأقل من دولة، فهو يظل مثل الجنين في رحم المرأة، لابد له من الخروج مولودا إلى الحياة، وإلا فإنه سيأخذ روح "أمه" معه .
وفي الحقيقة، فإن فلسطين، اليوم، ومع كل هذا الرفض الإسرائيلي/الأمريكي لاستقلالها، الذي يريده معظم العالم، والشرق الأوسط في المقدمة، هي استثناء عالمي، فلا الأكراد ولا الكتالون، يتمتعون بمكانة الدولة العضو المراقب في المحفل الدولي الأهم، أي الأمم المتحدة.
المهم، هو أن إسرائيل كلما توغلت أيضا على الطريق العنصري داخليا، واجهت تحديات جديدة لا تخطر على بال، فبعد إقرار قانون الهوية، وبعد التوغل بعيدا على طريق الدولة الدينية، جاءها التحدي من الداخل، أولا من خلال "توحد" العرب الفلسطينيين في قائمة انتخابية واحدة، وثانيا ممن ظنت أنها قد ألحقت بهم الهزيمة التامة، أي المعسكر المدني، وبذلك فقد انشطرت إسرائيل إلى نصفين، طالما ظهرا على شكل معسكرين سياسيين، لكن لن يطول الوقت حتى يظهرا كتجمعين بشريين، لا توافق بينهما، إلا في ظل دولة لكل مواطنيها.
ولعل توغل إسرائيل على طريق العنصرية قد بلغ أوجه، فيما تشهده هذه الأيام من احتجاجات لمواطنيها الأفارقة، من أبناء الفلاشا الذين استقدمتهم قبل عقود من إثيوبيا، ولا ننسى بان حزب "إسرائيل بيتنا" بزعامة أفيغدور ليبرمان، إنما هو حزب يمثل المهاجرين من دول الاتحاد السوفياتي السابق، أي أن توغل إسرائيل على طريق الدولة الدينية، قد دفع الأقليات إلى التحشيد، وربما فيما بعد إلى التوحد من أجل الكفاح ضد شعار "يهودية الدولة" بعد أن باتت الحكومة بيد الناخبين من المستوطنين ومكبلة بأحزابهم وتحالفها مع الأحزاب الدينية.
لا خيار في نهاية المطاف لإسرائيل إن أرادت البقاء كدولة في الشرق الأوسط، إلا أن تدفع الثمن الواجب، وما هو إلا إقرار بالحقوق الفلسطينية أولا، أي الانسحاب التام والكامل من أرض دولة فلسطين، وثانيا، التراجع عن كل إجراءاتها على طريق الدولة الدينية، لتصبح دولة مدنية لكل مواطنيها، تعيش على أساس التعايش الداخلي ما بين الأغلبية والأقليات العرقية، وأن تكون فعلا وحقا وقولا دولة مسالمة، تتعايش مع الجوار والمحيط باحترام، أما الاستمرار على طريق نشأتها الاستعمارية بفرض سياساتها مدفوعة بالدعم الأمريكي اللامحدود، فلن يحمل لها في ظل التقدم الإنساني على طرق العدالة والمساواة بين البشر، سوى بذور الفناء والتفكك، وربما لا يطول الوقت، فبعد نحو شهرين من الآن، قد يحدث الانقلاب السياسي في إسرائيل، بما يعني البدء في شق طريق آخر، بدأته إسرائيل بحذر وتردد عام 1991، بعد انتفاضة فلسطينية شعبية عظيمة، فرضت عليها التحول الداخلي، ولكن إلى حين، أما اليوم فقد يفرض عليها ظهور"مارتن كينج" إسرائيلي لفظ الثوب العنصري، ومن ثم لفظ ثوب الاحتلال.
عن صحيفة الأيام الفلسطينية