هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
عن بكرة أبيه، خرج الشعب السوداني في تظاهرات مليونية، عمّت الخرطوم
وأم درمان والخرطوم بحري ومختلف المدن السودانية الكبرى، مسطرا بدماء خمسة شهداء
وعشرات الجرحى، فصلا جديدا من فصول ثورته المجيدة، ضد فلول النظام القديم ورموز
دولته «العميقة»، وليعلنوا بصوت واحد: أن «انقلاب الثلاثين من يونيو/حزيران 1989،
لن يتكرر ثانية، لا بغطاء «إسلاموي» كما حدث من قبل، ولا بأدوات عسكرية كما يحدث
اليوم.
لأكثر
من ستة أشهر، والسودانيون في الشوارع والميادين، مطالبين بدولة مدنية – ديمقراطية،
تنهي ثلاثين عاما من الحكم الهجين (عسكر وإخوان)... نجحوا في الإطاحة بالطبقة
الأولى من نظام البشير، بيد أنهم أخفقوا حتى الآن، في إزاحة طبقاته المتعددة
الضاربة في عمق مؤسسات «الدولة العميقة» والمليشيات والجماعات التي طالما اتكأ
إليها النظام السابق في تدعيم أركان قبضته وسيطرته... المعركة بين الجموع السلمية
الغاضبة والتوّاقة للحرية والتنمية من جهة والنظام العسكري وأعوانه من جهة ثانية،
ما زالت مستمرة، ويسجل فيها الشعب السوداني وقواه الحيّة، فوزا بالنقاط، ضد قوى
الأمر الواقع ورموز الحقبة السابقة وأدواتها.
أمس،
جدد الشعب السوداني ثورته، وأعاد بعثها من جديد... حضر السودانيون إلى الشوارع كما
لم يفعلوا من قبل... وجّهوا رسائل للمجلس العسكري وداعميه المحليين والإقليميين:
«الثورة مستمرة حتى تحقيق غاياتها»... أظهروا وعيا متعاظما بألاعيب الجنرالات
ومراوغاتهم و»شبقهم» للسلطة... قفزوا من فوق الألغام والفخاخ التي نصبت لهم
بإحكام، حرّكوا الوساطات والوسطاء، وأعادوا ترسيم موازين القوى وعلاقاتها داخل
السودان وفي علاقاته الإقليمية والدولية... السودان بعد الثلاثين من يونيو 2019 لن
يظل كما كان من قبل.
نفض السودانيون عن أنفسهم غبار الكسل والسكينة والخنوع، وفجّروا كل
ما في دواخلهم من وعي وإرادة ورغبة في الاستلحاق بركب العصر... باتت لهم قضية
توحدهم وتخرجهم للشوارع والميادين، وتحفزّهم على تقديم مواكب الشهداء وتقديم ما
يلزم من تضحيات... هذا تطور استثنائي في حياة الشعوب، لا يتكرر باستمرار، ولا يحدث
دائما... هي لحظة سودانية بامتياز، ولا أظنها أن مفاعليها وتداعياتها ستتبدد أو
ستضيع سدى مهما بلغ «التذاكي « بالجنرالات وداعميهم الإقليميين والدوليين.
أذكر ذات حوار مع الراحل حسن الترابي في منزله في العاصمة السودانية،
أن سألته عن رهاناته المستقبلية، فقال تمليك السودانيين رسالة تخرجهم من كسلهم
ورتابة عيشهم، وتحرك طاقاتهم وتفجرها... كانت رسالة الترابي «تصدير الدعوة»،
وتحويل السودان إلى قاعدة انطلاق لها، ما تسبب في تأزم علاقات السودان بجواره
والعديد من دول المنطقة ومجتمعاتها... خسر السودان وذهب الترابي ومن بعده البشير،
ولم تنتصر الدعوة.
اليوم، يتوفر السودانيون على «رسالة»، صاغوها بأنفسهم، من دون تدخلات
خارجية، وبلا طموح للتدخل في شؤون الغير... رسالة السودانيين اليوم التي أخرجتهم
من منازلهم، وفجّرت طاقاتهم، هي «سودان مدني – ديمقراطي» يوفر العيش الكريم
والكرامة لأبنائه وبناته... لا نريد للسودان أكثر من ذلك، ولا نريد منه أكثر من
ذلك.
الانتصار الذي حققه السودانيون بعزل البشير في أبريل الماضي، لم
يكتمل فصولا بعد... تلاميذه وورثته، يظهرون التزاما بنهجه وأدواته... هم أبناء
المدرسة ذاتها، التي نهضت على القبضة الحديدية والمراوغة وفرق تسد واعتماد
المليشيات وشراء الذمم وخلق الأطر والكيانات الوهمية لتذويب المعارضة الحقيقية
والقوى الحيّة في بحرها... كل ذلك لم يجدِ نفعا حتى الآن، لا مصادرة الثورة
واحتواؤها أو في إطفاء جذوتها.
الرهان على الخارج واللعب على الحبال المشدودة بين عواصم الإقليم
ومحاوره، كانت واحدة من الأوراق التي برع البشير في استخدامها... «تلاميذه النجباء»
يحاولون استخدام الورقة ذاتها، ولكن بقدر أقل من النجاح، فالإقليم منقسم حول
السودان، والمجتمع الدولي أقرب لوجهة نظر الشارع، مع أنه لا يتحرك بما يكفي
للانتصار لثورة الشعب السوداني... مساحة المراوغة تضيق أمام المجلس العسكري، بخلاف
ما كان عليه الحال زمن البشير... والمبادرة الأثيوبية – الأفريقية تترك له هوامش
أضيق، على الرغم مما يشوبها من مثالب ونواقص.
معركة «الانتقال» في السودان، كما في جميع الدول العربية، ما زالت
صعبة وطويلة ومكلفة، لكن السودانيين يظهرون من العزم والتصميم والوعي والدراية، ما
يجعل الثقة بمستقبل ثورتهم أكبر من أي وقت مضى، وأعلى من أي تجربة عربية مماثلة.
عن
صحيفة الدستور الأردنية