وللحياة احترامها أيضا قُتل رئيس الجمهورية بالإهمال فتحسس رأسك

رحل الدكتور محمد مرسي عن عالمنا. رحل أول رئيس جمهورية مدني منتخب في مصر، حبيسا في سجون نظام الثورة المضادة. رحل محروما من أبسط حقوقه كإنسان في تلقي الرعاية الطبية والمعاملة الكريمة، في العدالة. رحل مظلوما، يحاكمه انقلابيون لفقوا له تهما باطلة، ثم تعمدوا إهانته وإذلاله.

قتلوه ببطء

لكنه أيضا رحل واقفا صامدا متماسكا مرفوع الرأس. اختلف معه ما شئت لكنك لا تستطيع أن تنكر ذلك. لست أبالغ إذ أكتب أنه برحيله حبيسا مهانا، حرر الكثير من المواطنين من أي أوهام، ربما تكون قد ظلت عالقة في أذهانهم عن حقيقة أحوال البلد وطبيعة النظام، فالشاهد أن دلالة الحدث ومغزاه لم تغب عن قطاعات واسعة، فقد ساعدهم (أو أجبرهم في حقيقة الأمر) على رؤية الواقع باختصار، متجردا من تلال الأكاذيب والرطانة، والمبررات التي راكمها النظام وإعلامه: نظامٌ انقلابي يقتل بسلاح الإهمال المتعمد أول رئيس منتخب عقب ثورة شعبية؛ نظامٌ لا يحاكم بالعدل بل ينتقم، كما لم تفت عليهم تلك المقارنة التي تفرض نفسها: كيف خرج رجال مبارك الواحد تلو الآخر من السجون، وقبل هذا وذاك كيف أن مبارك نفسه قضى «فترة عقوبته» في مشفى عسكري على النيل، كيف مات مرات عديدة حسب الشائعات ثم قام، وكيف كان يحتسي قدحا من القهوة في أثناء إحدى محاكماته، وكأن لسان حاله كلمته الشهيرة: «خليهم يتسلوا»، وكيف أنه الآن طليق يرتاد القرى السياحية ليصطاف ويستمتع بجو البحر والهواء النقي، ولم يجانب أحدا الصواب حين يتساءلون أليس فيهم لص؟ أيعقل أن أحدا منهم لم يرتكب جريمة واحدة؟ وماذا تراه فعل مرسي في سنته اليتيمة ما لم يقم به مبارك طوال الثلاثة عقود التي حكم فيها مصر، فأكمل إخصاءها وخسفها أرضا؟ كما أردت تلك المحاكمة وتلك الميتة الأسطورة الاستقلال التام للقضاء في دولة ديكتاتورية كدولة السيسي وأسلافه، إذ خلا بعض الاستثناءات فإن النظام الذي يصادر المجال العام بصورة شبه مطلقة ومتعاظمة، ويسحق كل أشكال التعبير الحر المعترض أو الناقد أو حتى المتحفظ في حياء، لن يقف مكتوفا ملتزما الحياد إزاء قضاء مستقل، فضلا عن كون الأوراق والدفاتر تحت يديه، فهو يرتبها كيف يشاء وبما يخدم مصالحه.

رحل الدكتور مرسي مظلوما، يحاكمه انقلابيون لفقوا له تهما باطلة، ثم تعمدوا إهانته وإذلاله
بيد أنني لا بد أن أعترف بأن بعض تعليقات الناس، على صدق حزنهم وأليم يقظتهم، قد أزعجتني بشدة، فقد طفقوا يتحدثون عن رحمة ومغفرة ستشمل الرئيس الراحل وعن جنات فسيحة، لا بد أنها تنتظره مشرعة أبوابها، عن قاضي السماء، كما أنهم ينعون على النظام وأنصاره عدم تحليهم بشرف الخصومة أو احترامهم لحرمة الموت.

لا شك بأن للموت حرمته، وإنني لأتمنى صادقا أن يسكن الله مرسي فسيح جناته، شأنه في ذلك شأن كثيرين من الناس (عدا الطغاة العرب)، لكن ما بال الأحياء؟ أليست لهم حقوق؟ أليس للحياة احترامها أيضا؟ أليس الأولى والأجدى أن نركز على نيلهم هذه الحقوق وصيانتها، على إطلاق سراح ما يقارب الستين ألفا أو يزيدون المحبوسين ظلما، عوضا عن مصمصة الشفاه والرثاء والترحم عليهم أمواتا وشهداء؟

لست أصلُحُ حَكَما على أحد مات، ولست بقاض، كما أنني لست بمعرض تقييم تجربة الدكتور مرسي وجماعة الإخوان المسلمين في السلطة ولا مناقشة فكرهم، بل يعنيني هنا أمران: رئيسٌ منتخبٌ قتله انقلابيون ببطء، والأهم والأبقى والأكثر إلحاحا عشرات الآلاف قيد الاعتقال وضحايا الاختفاء القسري يتعفنون في أقبية السجون وغياهبها دون وجه حق، ظلما، بلا محاكمات، مهدرةٌ كل حقوقهم ومستباحةٌ إنسانيتهم، ناهيك بالطبع عن من تتم تصفيتهم؛ لم يكن من الممكن إخفاء موت الدكتور مرسي بهذه الطريقة، فما بال الآلاف ممن لا يعرف بهم أحد سوى ذويهم، والكثير منهم مرضى وذوو احتياجات؟ أما حكاية «شرف الخصومة» تلك، فتدهشني تماما ولا أراها تعدو أن تكون لازمة مكررة «كليشيه»، ومن شبه المؤكد أن من ينطق بها لم يتريث قليلا ليتدبر فيها، إذ أي شرف في الخصومة يرتجى أو يتوقع من نظام ثورة مضادة، انقلابي دشن عهده بمجزرة كرابعة، وحملة تلو الأخرى من الاعتقالات والتصفيات؟ ليس ذلك فحسب، بل إنني أرى استدعاء شرف الخصومة ذاك مضرا، كونه يخفي أو يمارس نوعا من التمويه على طبيعة صراع بقاء دامٍ لا هوادة فيه مع طرف لا رحمة لديه ولا شفقة، كما لم يكن يثبت لنا بمثال تلو الآخر، ولعل مقتل ريجيني والخمسة الذين ضُحي بهم للتمويه عليه، وإسراء الطويل وآية حجازي أقرب أمثلة تستحضرها ذاكرتي على سبيل المثال لا الحصر، مع التأكيد كما أسلفت، أن هؤلاء يشكلون «مشاهير» المعتقلين والضحايا.

لا شك أيضا في أن سقوط الرئيس مرسي بهذه الصورة، ميتا في أثناء محاكمته قد أحرج النظام محليا وعالميا، ما حدا به لإطلاق أبواقه الإعلامية لتنفي الإهمال الطبي، بل تزعم أنه كان يلقى عناية كريمة، وأن كل طلباته، خاصة الغذائية، كانت تلبى فكان يستمتع بكل ما لذ وطاب، فكأنهم لم يكتفوا بتلفيق التهم له حيا، وقتله إهمالا، فهم يسعون لاغتياله معنويا بعد سقوطه بتلك الطريقة البائسة، غير أن ذلك التبجح لم يأت إلا بأثر عكسي، فازداد قرف سواد الناس من النظام وصفاقته أمام الموت وتعاطفهم مع الراحل، لاسيما أنهم يدركون أن حالته الصحية المتردية كانت معروفة، الأمر الذي دفع محاميا بريطانيا إلى التحذير من موته المبكر، نتيجة الإهمال الصحي منذ إبريل 2018 في صحيفة «الإندبندنت» البريطانية. ولعل ما يستوقفنا في هذا السياق هو رغبة الانتقام والثأر التي تحكم تصرفات النظام بصفة عامة والمنظومة الأمنية بصفة خاصة، حيث تستبد بهم شهوة التنكيل المريض، فلا يملكون مقاومتها (أو لعلهم لا يريدون) بما يضرهم في نهاية المطاف فيحرجهم ويؤلب الناس عليهم، فالأكيد دون أدنى شك أن أسهم الرئيس الراحل وجماعته في ارتفاع، خاصة على خلفية الغلاء وتدهور أوضاع الناس والفشل المتكرر في سيناء.

تساءلت في مقالات سابقة مستنكرا إن كان هناك شخصٌ رشيد في هذا النظام، بيد أنه يوما بعد يوم تتأكد الإجابة بالنفي، كما تتواتر الشواهد والإشاعات بأن عقلاءه القلائل يتم إقصاؤهم. لن تكتمل اعترافاتي دون أن أعرب عن شعوري العميق بالحزن والأسى على رحيل الرجل بهذه الصورة المهينة، شعور ينبع من العين نفسها التي تفيض بالأسى على كل من يشاركونه المحنة نفسها والمصير نفسه، على أولئك الآلاف الذين لا أعرف أسماءهم المحبوسين ظلما وتدليسا وتلفيقا، من قبل الثورة المضادة؛ قد أختلف مع كثيرين منهم كما أختلف مع الدكتور مرسي، رحمه الله، وجماعته فكريا وسياسيا، إلا أنني لن أهدر إنسانيتهم ولن أدافع عمن يسلبهم حقوقهم، وناشدا متوخيا الاتساق مع ذاتي ومبادئي وانحيازي السياسي والاجتماعي، فإنني أقف مدافعا عن حقوقهم في المعيشة والكرامة والعدالة، كما أنني أدرك جيدا أن من نكل بمرسي لا ينتقم منه لشخصه أو جماعته فحسب، وإنما يصفي حساباته وحساب طبقته ونظامه مع ثورة يناير بكل مكوناتها.

لقد رحل الدكتور مرسي عن عالمنا، ولست أشك للحظة بأن في ذلك راحة ورحمة له من ذل السجن ومعاناته، لكنه سيظل بذكراه مُدينا لظالميه، أما على الباقين الأحياء فقد بات الدرس واضحا، ويتعين علينا استيعابه وإدراك معناه لكي نفهم هذا النظام ونبحث لنا عن مخرج، فلا قيمة لأحد ولا سعر ولا حقوق ولا ضمانات، إذ حين يقتل الرئيس بهذه الصورة فجديرٌ بكلّ منا أن يتحسس رأسه.

 

عن صحيفة القدس العربي اللندنية