قضايا وآراء

المأزق السعودي بعد قمم مكة

أمجد أحمد جبريل
1300x600
1300x600
على الرغم من نشاط الدبلوماسية السعودية في الأسابيع الماضية، ومحاولتها اختطاف الأنظار نحو القمم الخليجية والعربية والإسلامية، التي انعقدت تباعاً في مكة المكرمة، طلباً لرمزية المكان، وتوظيفاً لخصوصية شهر رمضان، فإنها لم تستطع التصدي لمشروع إيران الإقليمي، ولا تحجيم خطر صواريخ الحوثي وطائراته "المسيّرة"، التي باتت تضرب في "العمق السعودي"، بدايةً من استهداف خطوط نقل شركة أرامكو قرب الرياض، إلى الهجمات على مطار أبها الدولي، ناهيك عن قاعدة الملك خالد الجوية في خميس مشيط، فضلاً عن مناطق جنوب السعودية مثل نجران وجازان، ما يؤكد خطورة "المأزق السعودي" بعد أن تحوّل الحوثيون من سياسة الدفاع إلى الهجوم، عبر تكتيكات جديدة.

قمم مرتبكة هدفها الحشد الدبلوماسي ضد إيران

لقد برزت فكرة الدعوة السعودية إلى قمتين طارئتين خليجية وعربية على عجلٍ، لتحقيق هدفين؛ أحدهما استباق/ تحجيم نتائج القمة الإسلامية العادية الرابعة عشرة لمنظمة التعاون الإسلامي في مكة المكرمة في 31 أيار/ مايو الماضي. والآخر، استثمار رمزية المكان في توجيه القمم الثلاث نحو إدانة سلوك جماعة الحوثي اليمنية وتهديدات طهران، في سياق التصعيد الأميركي الإيراني الراهن، ربما استشعاراً من الرياض بأن نبرة خطاب واشنطن تراجعت "نسبياً"، وعادت إلى طلب التفاوض والوساطات، لإبرام اتفاق جديد يشمل البرنامج النووي والصواريخ البالستيةالإيرانيين.

استعجال السعودية وارتباكها جعلا القمتين الخليجية والعربية عاديتين في نتائجهما، فهما ليستا "فارقتين"، ولا تمثّلان "محطة مفصلية" بحيث يمكن الحديث عما قبلهما وما بعدهما، بغض النظر عن مستوى التمثيل والحضور فيهما؛ فالخليج بات منقسماً إلى محورين متنافسين، وذلك بمجرد فرض الحصار على قطر في حزيران/ يونيو 2017، ما يضعف فرصة الوساطة الكويتية على الرغم من أهميتها الشديدة والدعم العُماني والدولي لها، علماً بأن قضية الحوار/ الصراع الخليجي مع إيران أصبحت محوراً لاستقطابٍ جديد في الخليج.

أما الجامعة العربية، فلم تعد على صلة بحالة العالم العربي منذ اندلاع الثورات العربية 2011، بل بات أمينها العام، أحمد أبو الغيط، يتحدث كأنّه "موظف في وزارة الخارجية المصرية"، ولم يعد يكترث بقضية الشعب الفلسطيني، ولا بالثورات العربية وأصوات الشعوب المهمّشة.

لم تكن القمتان إذن في وارد حل أية مشكلة عربية، سواء فيما يتعلق بحصار قطر أو الاعتراف بفشل التحالف العربي في حربه على اليمن، أو حتى تهدئة الصراعات الداخلية الطاحنة في ليبيا والسودان، ناهيك عن سوريا، على نحوّ أثار تهكم الحوثيين في اليمن وأمين عام حزب الله، حسن نصر الله، في تعليقاتهم على القمتين.

لم تأتِ القمة العربية الطارئة في مكة بما تشتهيه الرياض، وثمة ثلاثة مؤشرات تؤكد تواضع حصيلتها؛ أولها، تحفظ العراق على بيانها الختامي، بسبب مخاطر التصعيد الأميركي الإيراني على أمن بلاد الرافدين، ما اعتبرته الرياض "اصطفافاً عراقياً مع إيران"، وليس تطبيقاً لسياسة "النأي بالنفس"، ما يدل على محدودية التقارب بين الرياض وبغداد، على الرغم من توقيع الاتفاقيات وتبادل الزيارات على أرفع المستويات، ومنها زيارة رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي إلى السعودية، في 17 نيسان/ أبريل الماضي.

وثانيها، قيام وزير خارجية سلطنة عُمان يوسف بن علوي بزيارة العراق في 12 حزيران/ يونيو الجاري، لتدشين علاقات دبلوماسية كاملة بين البلدين، والاتفاق على التعاون في تهدئة التصعيد بين واشنطن وطهران، ما يؤكد وضوح العراق في عدم تبنيه مواقف الرياض وأبو ظبي في التصعيد ضد إيران.

أما المؤشر الثالث فيتعلق بموقف الدوحة من طريقة الرياض في إدارة القمتين الخليجية والعربية؛ على نحو "استعلائي" يريد من الآخرين "التسليم بمطالب السعودية" دون مناقشة، على نحو ما كشفه وزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، ما يعني أن الأزمة الخليجية وحصار قطر مستمران لفترة أخرى.

وهذه المؤشرات تؤكد أن العلاقات العربية العربية ذاهبةٌ إلى مزيد من التدهور بعد قمة مكة، خصوصاً أنه لم يسبقها أجواء "مصالحات عربية" كما هو معتاد في أغلب القمم العربية، لا سيما من الدولة المستضيفة للقمة. وما التوتر الأخير في علاقات الخرطوم الدوحة، وإغلاق مكتب قناة الجزيرة، إلا دليلان ساطعان على طبيعة الضغوط الهائلة التي مارستها الرياض والقاهرة وأبو ظبي على السودان، ما قد يفتح الباب أمام تدخلات أمريكية، وربما يزيد فرصة الوساطة الإثيوبية الأفريقية بين الفرقاء السودانيين، ما دام العرب يدعمون طرفاً عسكرياً لا يتورع عن ارتكاب جرائم، كما جرى في فض الاعتصام السلمي أمام القيادة العامة للجيش في الخرطوم، في 3 حزيران/ يونيو الجاري.

الرياض وأولوية التهديدين الحوثي والإيراني: "فلسطين يمكنها الانتظار!"

نأتي إلى القمة الإسلامية، وهي أهم القمم الثلاث، لولا أن توجهات محمد بن سلمان أدّت إلى "تقزيمها" إلى مجرد صراع مع إيران والمليشيات التابعة لها في المنطقة، بما يؤجّج الاستقطاب الإقليمي ويؤخر حل/ تهدئة الصراعات في المنطقة، وعلى رأسها "الحرب العبثية" ضد اليمن.

ربما ينبغي التذكير بأن نشأة منظمة المؤتمر الإسلامي، إثر حريق المسجد الأقصى عام 1969، كانت تعكس "استجابة" من الملك فيصل لتعزيز أوراقه في مواجهة المد القومي الناصري آنذاك، أما "السعودية الجديدة" فإنها تشتكي اليوم في الذكرى الخمسين لإنشاء المنظمة، من "مليشيات إرهابية مدعومة من إيران تستهدف أمن الملاحة وإمدادات الطاقة للعالم، ناهيك عن أمن السعودية والخليج". ثم يذكر الملك سلمان بعدها أن "القضية الفلسطينية تمثل ركيزةً أساسية لمنظمة التعاون الإسلامي، وأن بلاده ترفض أي إجراءات تمس الوضع التاريخي والقانوني للقدس الشرقية".

فهل باتت السعودية تعطي أولوية لقضية "مكافحة إرهاب الميليشيات" والحشد ضد إيران، وتؤخّر عامدةً قضية القدس والمسجد الأقصى، الذي تعرض لاقتحام المستوطنين بعيد انتهاء قمة مكة، في رسالة "استخفاف إسرائيلية" واضحة؟

وإذا كان الخطاب السعودي جاداً في حديثه عن فلسطين والقدس، فما تفسير خطوات التطبيع المتسارعة مع إسرائيل التي شهدها عهد الملك سلمان؟ ولماذا لجأت السعودية إلى تخفيض تمثيلها الدبلوماسي، في قمة إسطنبول الاستثنائية الإسلامية كانون الأول/ ديسمبر 2017، التي دعا إليها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، رداً على قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس "عاصمةً لإسرائيل".

وهذا يكشف محدودية هامش مناورة الرياض داخل منظمة التعاون الإسلامي، مقارنةً بحالتي مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية؛ إذ لا قدرة فعلية للرياض لإرغام دول مثل تركيا أو إيران أو باكستان أو إندونيسيا أو ماليزيا، على تبني مواقفها الصراعية وغير العقلانية، سواء في اليمن أو قطر أو مع إيران.. إلخ، حتى لو التزمت هذه الدول الإسلامية بالأعراف الدبلوماسية لكيلا يظهر للعيان فشل القمة الإسلامية في مكة. 

هيكل صنع القرار السعودي: ما الذي يتغير؟

إن محدودية نتائج قمم مكة الثلاث، يعود إلى أسبابٍ عميقة تتعلق بطبيعة التغير الداخلي في السعودية، التي تعاني أربع أزماتٍ بنيوية؛ أولاها، تداعيات تغيير نظام انتقال العرش، كما حدث عند إقصاء ولي العهد السابق محمد بن نايف في يونيو/حزيران 2017. وثانيتها، ظهور محدودية خطط تقليص الاعتماد على النفط كما تبشر به "رؤية 2030"، على الرغم من الدعاية الهائلة لها. وثالثها، تدهور الملف الحقوقي في السعودية بعد تفاقم سياسة الاعتقالات والتعذيب في عهد محمد بن سلمان، ناهيك عن الأزمة المركبة الناجمة عن حرب اليمن وتداعياتها الاستراتيجية، وتزايد قدرة الحوثيين على استهداف المملكة وتهديد أمنها النفطي على نحوٍ نزع عن ابن سلمان هالة "القائد العسكري" القادر على إرغام خصومه على التسليم بالمصالح السعودية، لتحل محلها صورة السعودية التي تستنجد بالعالم وبالعرب والمسلمين، لحمايتها من هذا التهديد الحوثي/ الإيراني.

ثمة تغيرٌ يحدث في هيكل صنع القرار السعودي؛ فعلى الرغم من بقاء الملك سلمان على قمة الهرم السياسي، فإن هناك هيمنة "شبه كاملة"، لولي عهده محمد بن سلمان، في أغلب الملفات الداخلية والخارجية، ما يعكس قدراً من "ازدواجية السلطة"، وليس "توزيع الأدوار".

لقد قام الملك في الشهور الماضية بالاستدراك على قرارات ولي عهده، فيما يخص ثلاث قضايا تحديداً؛ أولها، تأجيل/ إلغاء مسألة طرح شركة أرامكو للاستكتاب. وثانيها، إعادة هيكلة جهاز الاستخبارات بعد جريمة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي، بما يبعد مستشاري ولي العهد عن الأضواء نسبياً، على الرغم من استمرار تأثيرهم الفعلي في القرارات. وثالثها، الاحتفاظ ب"خطوط رجعة" في تأييد الرياض "صفقة القرن"، خصوصاً بعد فشل رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو في تشكيل الحكومة الإسرائيلية، واتخاذ الكنيست قراراً بحلِّ نفسه وإجراء انتخابات برلمانية جديدة في 17 أيلول/ سبتمبر المقبل.

ويبدو أن الملك، والساسة السعوديين من "الحرس القديم"، أكثر حذراً في موضوع "صفقة القرن"، على عكس ولي العهد وطاقم مستشاريه (أي "الحرس الجديد")، الذين يتسببون في مشكلات حقيقية للسياسة السعودية، بسبب التهور ونقص الخبرة الواضح، خصوصاً في تجاهل موقع قضية فلسطين ضمن السياسات العربية والدولية بوصفها "القضية المركزية"، وانعكاسات أية أخطاء فيها على "شرعية النظام السعودي"، الذي يفخر بخدمة الحرمين في مكة والمدينة، دون أن يعمل شيئاً حقيقياً للحرم الثالث، أي بيت المقدس.

وختاماً، فقد أصبحت القضايا الخليجية/ العربية مرهونة بعوامل خارجية شديدة التعقيد، وعلى رأسها صراع واشنطن ضد طهران، بالتزامن مع تكثيف التطبيع الخليجي- الإسرائيلي، وتسارع جهود استكمال إقامة النظام الإقليمي الجديد في الشرق الأوسط،على دعائم تخدم استمرارية المشروع الأمريكي/ الإسرائيلي في المنطقة، مع محاصرة ما تبقى من روح التغيير والثورات العربية السلمية، خصوصاً في السودان والجزائر، وكذلك التضييق على كل المشروعات الخارجية الأخرى (الروسية والإيرانية والتركية والصينية والأوروبية.. إلخ)، وإعادة ضبطها، لكيلا تتصادم مع مشروع واشنطن- تل أبيب– الديكتاتوريات العربية. 

إن لجوء السعودية إلى رمزية مكة، وتنظيم ثلاث قمم متتالية فيها، ليس كافياً لتجاوز الأزمات السعودية المتراكمة، خاصةً أن سياسات الثلاثي محمد بن سلمان ومحمد بن زايد وعبد الفتاح السيسي صنعت مزيداً من المشكلات، وكادت أن تحوّل منظمات مجلس التعاون لدول الخليج العربي وجامعة الدول العربية، إلى "ظواهر صوتية آنية"، فلم تعد قادرةً على "الفعل المؤسساتي"، وبالتالي باتت عاجزةً عن معالجة التحديات، لا سيما بعد أن ربطت هذه الدول الثلاث نفسهابتوجهات الرئيس ترامب "المأزوم" بدوره.

لقد أوضحت قمم مكة الثلاث طبيعة مأزق النظام السعودي، الناجم عن سياسات المغامرة والتهور، بالإضافة إلى غياب "المشروع الوطني"، وعجز النظام عن التصدي للتهديدات الخارجية، ناهيك عن افتقاده القدرة على التأثير على مسار القضايا العربية، التي باتت تخضع لـ"الأقلمة" و"التدويل" بشكلٍ متزايد، بسبب أخطاء السياسات السعودية والعربية، التي تركت "فراغاً استراتيجياً"، أحسنت إسرائيل وإيران وتركيا وإثيوبيا وروسيا والصين وأمريكا؛ توظيفه لصالح مشروعاتها.
التعليقات (0)