هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تتقدم أحداث الموجة الجديدة من الربيع العربي وتزداد تعقيدا مع الخلافات المركبة في السودان، واستمرار سيولة الوضع في الجزائر، وفشل حفتر في تحقيق تقدم ميداني على الأرض، لا يبدو الوضع في أي من السياقات الثلاثة مرشحا لاستقرار ولو نسبي، ففي كل الحالات هناك مواجهة مفتوحة بين القوى الثورية والتقليدية، بل وفي حالتي الجزائر والسودان يبدو أن المواجهة داخل معسكر النظام محتدمة أكثر من الصراع مع القوى خارجه، وفي خضم هذا المخاض يبقى الترقب للعامل الخليجي الذي كان له الدور الأبرز في أحداث الربيع الأول أو على الأقل في تعقد المشهد آنذاك.
كما كان الحال مع الثورة المصرية والحرب في ليبيا في المرة الأولى، تبدو المحاور الخليجية منقسمة بشكل واضح في أحداث الدول الثلاث اليوم، ولكن هناك عوامل مختلفة اليوم تحدد طبيعة التدخل الخليجي، أولا يبدو الخليج أيا كان موقف دوله في دعم هذا الطرف أو ذاك، منهكا بتعقيدات الحالة السياسية العربية وبالأزمات المتلاحقة، المحور السعودي الإماراتي الذي استثمر الكثير في ضمان نجاح الثورات المضادة، يواجه اليوم تعثر جهوده في اليمن والالتفاف المصري على التوافق في المحور وفشل حفتر في الحسم ليبيا، وهذا غير التحدي الاقتصادي الناتج عن النزيف الذي تسببت به المغامرات المختلفة، والنزيف الدبلوماسي الذي تسبب به اغتيال خاشقجي وتكشف الممارسات الإماراتية في واشنطن، وقطر من ناحيتها باتت أكثر حذرا في نشاطها السياسي الخارجي خاصة مع الإدارة الأمريكية الحالية، التي لا يمكن توقع ردود أفعالها وتجربة الربيع السابقة ووضع الحصار.
كما أن الخطوط لا تبدو واضحة بين المعسكرات في السودان والجزائر، الخلافات بين العسكر في السودان تجعل من الصعب على المحور السعودي الإماراتي تحديد اتجاه الدعم بشكل يضمن حتمية تمرير أجندتهم، وموقف البشير الرافض للحصار والمتصالح مع قطر وتركيا جعل هاتين الدولتين بحاجة لأخذ خطوة إلى الوراء بعد خلعه، قبل تحديد الاتجاه المستقبلي بشكل واضح، بالإضافة إلى أن الساحة تبدو معقدة أكثر عربيا، فهل يجب أن تكون الأولوية لدعم الحراك الشعبي أم دعم استقرار الدولة؟ خاصة أن العالم العربي أصبح مثخنا بالجراح مفتقدا لحكومات مركزية قوية في أهم عواصمه، أما في الجزائر فمن الواضح أن أقطاب النظام وبخاصة العسكرية منها لا تقبل تدخلا خارجيا من أي طرف، ما يجعل الفرقاء الخليجيين يقفون على مسافة بعيدة من المشهد، وإن كان المحور السعودي الإماراتي يقوم بمحاولات هنا وهناك لاختراق الحالة الجزائرية، وعلى الرغم من محاولات قراءة المشهد الجزائري عبر النموذج المصري، إلا أنه لا يبدو أن ذلك واقعي في ظل الاختلاف الواضح في دور العسكر وطبيعة المؤسسات الحاكمة هناك.
في ليبيا تبدو خطوط المعركة أكثر وضوحا، ما يجعل التدخل الخليجي من الجانبين ينصب في اتجاهات واضحة، منذ اليوم الأول لتحرك حفتر الذي وظف الاضطراب في الجزائر واستبق احتمالية التوافق الأممي وموجة الربيع الثانية، وقف المحور السعودي الإماراتي بصرامة خلف خياره الأوحد، فسواء عبر الدعم المالي الكبير أو العسكري اللامحدود أو الإعلامي الواضح أو السياسي، الذي وصل حد إقناع البيت الأبيض بمخالفة الموقف الرسمي للإدارة عبر الاتصال بحفتر، لا يبدو أن هناك خط رجعة في أذهان صناع القرار في أبوظبي والرياض، ومن الناحية الأخرى يبدو الحراك القطري التركي الإيطالي واضحا لا مواربة فيه في دعم الشرعية المعترف بها دوليا، ولكن الميدان الذي لم يتمكن حفتر بعد من تحقيق اختراقات حقيقية فيه هو المؤشر الحقيقي، في حال فشل حفتر في دخول العاصمة فلن يجد داعمين حقيقيين له خارج أبوظبي والرياض، وفي حال تحقق له ذلك فسيعترف العالم به سريعا حاكما عسكريا جديدا.
العواصم الخليجية اليوم على الرغم من التطورات والأزمات المتلاحقة، مازالت تمثل الثقل العربي الأكبر من حيث الاستقرار والقدرة على التأثير، وليس ذلك في الحقيقة أمرا إيجابيا بالضرورة؛ فمحور الثورات المضادة المدعوم إماراتيا وسعوديا ما زال العامل الأهم في حالة عدم الاستقرار في المنطقة، في المقابل فإن الحذر القطري يعطي مساحة أكبر لهذا المحور لنشر الفوضى وإن كانت الخيارات القطرية محدودة في ظل الوضع العربي الراهن، ولكن المهم هنا هو أن ما يحدث في هذه الدول الثلاث، سيكون له أثر كبير على موازنة القوى بين المحورين عربيا، ففشل حفتر أو نجاح الحراك في السودان والجزائر في تشكيل حكومات مدنية، سيضعف بلا شك المحور الداعم للثورات المضادة وسيشكل رافعة للحماس الشعبي تجاه التغيير، والعكس سيعني مزيدا من القمع العربي ودعما لمواقف الثورة المضادة في خنق تطلعات الشعوب.
عن صحيفة الشرق القطرية