هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لم يكل العرب من
المطالبة بحقوق الإنسان الأساسية وبحقوقهم السياسية. حراك الجزائر والسودان خير
دليل على ذلك
لقد شهدنا ذلك جميعنا
من قبل، وعدة مرات.
شهدنا ذلك عندما فاز
الإسلاميون في الجولة الأولى من انتخابات الجزائر في شهر ديسمبر / كانون الأول من
عام 1991، وعندما انطلقت الانتفاضة في اليمن في السابع والعشرين من يناير / كانون
الثاني 2011، وعندما تنحى حسني مبارك في الحادي عشر من فبراير / شباط 2011 بعد
ثمانية عشر يوماً من المظاهرات في مصر، وعندما بدأت الاحتجاجات في مدينة درعا في
سوريا بعد شهر من ذلك، وعندما حوصر الرئيس الليبي معمر القذافي وقتل في ليبيا في
شهر أكتوبر / تشرين الأول من تلك السنة.
ألسنة لهيب الثورة
مازالت صيحات وآمال
تلك الأيام كالطنين في آذاننا، وكلنا نتذكر الوحشية التي مورست لإسكاتها – قنابل
الغاز، والبراميل المتفجرة، والمجازر، والانقلابات العسكرية، والاعتقالات
الجماعية، والتعذيب، والقصف الذي حول المدن إلى ركام، والدول التي لم تبق منها
الحروب الأهلية ولم تذر.
ومع ذلك، مازال اللهيب
الذي أشعل تلك الانتفاضات حياً، ومازال جمر تلك النار متوهجاً في أعماق الأرض. ثم
لا تلبث ألسنة لهيب الثورة أن تطفو على السطح من حين لآخر، وبرغم كل العوائق.
وهذا ما يحدث الآن في
الجزائر وفي السودان.
بعد أسابيع من
المظاهرات الحاشدة ضد حكمه وبعد أسبوع واحد من تعهده بالاستمرار في منصبه، أعلن
عبد العزيز بوتفليقة، المسن المريض ذي الاثنين والثمانين عاماً، أنه لن يترشح
لعهدة خامسة كرئيس للجزائر.
أقال رئيس وزرائه غير
المحبوب ووعد بعقد مؤتمر وطني "يمثل جميع التيارات في المجتمع" للإشراف
على المرحلة الانتقالية وتحديد تاريخ جديد لإجراء الانتخابات. وقال إن دستوراً
جديداً سيُكتب وسيُعرض على الشعب للاستفتاء.
التقى بوتفليقة بصديقه
الأخضر الإبراهيمي، مبعوث الأمم المتحدة السابق والمرموق إلى سوريا، والذي قد توكل
إليه مهمة رئاسة المؤتمر الانتقالي.
كان من الطبيعي أن
يُستقبل تصريح بوتفليقة، والذي ناقض البيان الذي كان قد صدر عنه من سرير مرضه في
المستشفى يوم الثالث من مارس / أذار، بكثير من التشكك وبالمزيد من المظاهرات في
الشارع الجزائري، حيث هتف المتظاهرون بأعلى صوتهم "لا خداع يا
بوتفليقة"، وحق لهم أن يقولوا ذلك. جاء في بيان لحركة مجتمع السلم، الحزب
الإسلامي الأكبر في الجزائر، أن بيان بوتفليقة مجرد محاولة للالتفاف على مطالب
الشعب.
مازال بوتفليقة في
السلطة، وسيبقى فيها إلى حين إجراء الانتخابات القادمة – متى ما كان ذلك. وقد لا
تجرى أبداً.
الدور الشرير الذي
يمارسه الجيش
يناضل رئيس السودان
عمر البشار ضد موجة مشابهة من الاحتجاجات الجماهيرية، ويلجأ في ذلك إلى مبادرات
تستهدف استرضاء الناس، ومن ذلك استقالته من منصب رئيس الحزب الحاكم، ولكنه في
المقابل يأتي بجرعات قوية معاكسة، مثل إعلان الطوارئ لمدة عام كامل، وهو الإعلان
الذي أقره عليه برلمانه مع اختصار المدة الزمنية إلى ستة شهور.
في كل واحدة من هذه
النقلات، هذا لو كانت فعلاً جديرة بأن توصف بالنقلات، سواء في السودان أو في
الجزائر، تجد الجيش وأمن الدولة يلعبان دوراً أساسياً فيما يجري. يشهد السودان
حالياً تنافساً محموماً حول من سيخلف البشير لو تنحى، وقد كشفت صحيفة ميدل إيست آي
عن أن رئيس الموساد الإسرائيلي يوسي كوهين شارك في إحدى النقاشات الهامة التي جرت
مع شخصية من المحتمل أن تكون الخليفة المنتظر.
ما من شك في أن بإمكان
جيشي البلدين أن يلعبا دوراً شريراً في ذلك، تماماً كما فعل الجيش في مصر من 2011
إلى 2013.
في البداية خضع الجيش
المصري للثورة وعزل مبارك، ووعد الجانبين الإسلامي والليبرالي في ميدان التحرير
بأنه سيكون إلى جانبهما. بل مارس دور مقسم الهاتف في الحوار بين الجانبين من حين
لآخر.
ولكنه لم يتوقف للحظة
عن اطلاع بشار الأسد في سوريا عما يجري، أو عما ما لم يكن يجري.
بعد عامين اثنين كان
الأسد ما يزال في موقعه بفضل مساعدة القوات الإيرانية وقوات حزب الله، وعندما حصل
الجيش المصري على الضوء الأخضر وعلى المال من المملكة العربية السعودية والإمارات
العربية المتحدة، الداعمين الرئيسين له، تحرك ليسحق تجربة مصر الديمقراطية في
مهدها.
كان القيام بذلك سهلاً
نسبياً. كان الرجل المتصدر لعمليته هو الجنرال عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع
الذي اختاره بنفسه وعينه في ذلك المنصب أول رئيس مصري منتخب ديمقراطياً، محمد
مرسي، لما كان يظهره من تدين وتقوى، ووضع فيه ثقته حتى اللحظة الأخيرة قبيل
الانقلاب العسكري في يوليو / تموز 2013 وما عقب ذلك من إلقاء القبض على مرسي.
وبعد ما يقرب من أسبوع
من مذبحة رابعة في القاهرة في الرابع عشر من أغسطس / آب 2013، شن الأسد هجوماً
بالغاز على الأحياء التي كانت تسيطر عليها المعارضة في محيط دمشق فقتل عدداً من
الناس يتراوح بين ثلاثمائة وألف وسبعمائة.
لم يكن توقيت تلك الهجمات
من باب المصادفة.
ادعت روسيا أن هجوم
الغوطة كان مدبراً إلا أنها ما لبثت أن توسطت لإبرام صفقة تقوم بموجبها سوريا
بتدمير مخزونها من الأسلحة الكيماوية. وهي الصفقة التي تم انتهاكها مراراً
وتكراراً، إلا أن سردية ما تبقى من سنوات هذا العقد كانت محفورة في الصخر.
إما نحن أو الفوضى
منذ تلك الأيام
والرسالة التي تنطلق من عصا الثورة المضادة، سواء كان الملوح بها هم طيارو
القاذفات الروسية أو المليشيات الإيرانية أو المستبدون في دول الخليج، هي نفس
الرسالة، ومفادها: "إما نحن أو تنهار الدولة. أطيحوا بنا وسوف تشردون في
الأرض وتتوجهون إلى أوروبا في قوارب مطاطية." وهذا ما ينطقون به جماعياً كما
لو كانوا في فرقة غنائية.
ما هو جديد ومثير
للاهتمام بشأن الأحداث في الجزائر والسودان هو أن الناس لا يبدو أنهم عادوا ينصتون
لهذه الترهات. عندما انطلق الربيع العربي في عام 2011 قابله الناس في الجزائر
بحالة من الصمت النسبي.
فقد كان الجزائريون قد
خاضوا عقداً من الحرب الأهلية المريعة، وما كانوا ليعبأوا بمن يطالبهم بخوض تلك
التجربة تارة أخرى.
موجة جديدة من الربيع
العربي؟
لكن المزاج اليوم
مختلف. لماذا يتوجه جيل جديد من الجزائريين والسودانيين – وحتى الأردنيين بهذا
الشأن – إلى الشوارع مع علمهم التام بما حدث في 1991 أو في 2011 وبما تمخض عنه؟ هل
نشهد موجة جديدة من الاحتجاجات الجماهيرية التي يقودها الشارع؟
تتوقف الإجابة على ذلك
على ما إذا كان الطواغيت سيتنازلون وعلى ما إذا ستظل العملية سلمية. لقد بدأت بشكل
سلمي ولم تنزلق نحو احتراب طائفي أو قبلي، بعد.
ما يمكن للمرء أن
يقوله هو أن الجزائريين والسودانيين لم يفقدوا يقينهم بقدرة الاحتجاجات الجماهيرية
على إحداث التغيير السياسي. لم يكل الناس من المطالبة بحقوق الإنسان الأساسية
وبحقوقهم السياسية. حراك الجزائر والسودان خير دليل على ذلك.
أياً كانت الأوراق
التي بقيت لبوتفليقة كي يلعب بها، مازال الزخم بيد الشارع، والشارع محق في أن
يتأكد من البقاء حيث هو إلى أن يتحقق التغيير السياسي الحقيقي والملموس.
من المهم ملاحظة أن ما
أشعل الثورة الشعبية في السودان والجزائر لم يكن ببساطة البؤس اليومي والشقاء الذي
يجده الناس في البحث عن حياة كريمة في تلك البلدان التي تعاني من بطالة وارتفاع
أسعار وفساد وثراء فاحش بين النخبة من أصحاب الامتيازات الخاصة.
إنما اندلعت
الاحتجاجات رداً على سعي البشير وبوتفليقة للاستمرار في الحكم إلى ما لا نهاية.
كان البشير قد قضى في
الحكم ثلاثين عاماً قبل أن تفجر مساعيه لتغيير الدستور في ديسمبر الأزمة الحالية.
أما بوتفليقة فهو في الحكم منذ عام 1999 وكان يسعى للتجديد لعهدة خامسة، ولذلك لا
عجب أن كان هتاف الجماهير تارة أخرى هو عبارة "كفاية، كفاية".
لم يكن هذا الشعار
جديداً، فقد أطلق المتظاهرون المصريون نفس الشعار عندما كان مبارك يسعى لتوريث
السلطة لابنه جمال.
وهي بالضبط نفس
الخطيئة التي يرتكبها الآن السيسي، والذي يبلغ من العمر أربعة وستين عاماً. فرغم
أنه ينتمي إلى جيل أصغر من بوتفليقة ومن البشير إلا أنه يعكف على فرض تعديلات
دستورية تسمح له بالبقاء في السلطة حتى عام 2034.
جيران قلقون
من ذا الذي يرقب أحداث
السودان والجزائر بقلق بالغ؟ أحد هؤلاء هو محمد بن سلمان، ولي العهد في المملكة
العربية السعودية. وكذلك محمد بن زايد، كاهن الثورة المضادة والذي ما فتئ يعمل بجد
للتآمر على كل بلد عربي ينشد شعبه التغيير.
إلا أن الرجل الأشد
قلقاً هذا الأسبوع هو السيسي نفسه. وقد بدا قلقاً جداً يوم الأحد عندما ظهر في
خطاب متلفز أمام حشد عسكري، حيث قال: "كل هذا الكلام (عن الاحتجاجات) إنما
يأتي بتكلفة سيتوجب على الناس دفعها."
وأضاف: "كيف من
المفروض أن تتمكن السياحة والمصانع والتجارة من الانطلاق؟ هل ينبغي علينا أن نأكل
أم نقول إننا كنا مشغولين في التظاهر."
لم ينطفئ جمر الثورة
في الداخل على الرغم من وضع اثنين من المنافسين للسيسي في انتخابات الرئاسة، أحمد
شفيق وسامي عنان، الأول تحت الإقامة الجبرية والآخر في السجن.
عندما طلب معتز مطر،
مقدم البرامج التلفزيونية المصري الذي يعمل في قناة الشرق المصرية التي تبث من
تركيا ويملكها السياسي المنفي أيمن نور، من الناس أن يكتبوا على الأوراق النقدية
"#اطمن_إنت_مش_لوحدك"، انتشرت موجة من البوستات في مواقع التواصل
الاجتماعية تحمل صوراً لأوراق نقدية تزينها هذه العبارة.
تمثل الرد على معتز
مطر بقرار يفرض على البنك المركزي المصري حظر تداول الأوراق النقدية التي كتبت
عليها هذه العبارة. ما كان ذلك ليحدث لو كانت شعلة الاحتجاجات في مصر قد انطفأت
كما يسعى النظام لإقناعنا.
في عام 2015، صدر على
معتز مطر حكم غيابي بالسجن عشر سنين بتهمة التحريض ضد الحكومة. وقد كشف منذ ذلك
الوقت عن أن اثنين من أشقائه وزوجاتهم وأولادهم قد اختفوا في القاهرة، وحمل
السلطات المسؤولية عن خطفهم.
هذه ليست إجراءات
يتخذها نظام واثق مطمئن، ناهيك عن أن يضمن البقاء في السلطة حتى عام 2034.
كنت قد كتبت من قبل أن
السيسي رجل ميت يمشي على الأرض. واليوم ازدادت قناعتي بذلك أكثر من أي وقت مضى. لا
يمكن للأمور أن تبقى على ما هي عليه في مصر. إن القوى الاجتماعية والسياسية التي
جاءتنا بالربيع العربي هي التي سوف تنتصر في نهاية المطاف.
ومن يقف في وجه هذه
القوى فإنه يقف في وجه التاريخ ظناً منه أنه سيؤخر ما هو آت لا محالة.
ميدل إيست آي
13 مارس / أذار 2019