حتى اعتقاله في سنة 1981، لم تكن شهرة الشيخ يوسف البدري قد تجاوزت حدود محافظة القاهرة، وربما وصلت لبعض المحافظات القريبة منها، مثل الفيوم، وبدعوة من شباب الحركة الدينية في المساجد والجامعات، في زمن ما أطلق عليه "الصحوة الإسلامية"!
وذلك على العكس من الشيخ عبد الحميد كشك، الذي بلغت شهرته الآفاق، ويرجع الفضل في وصول شهرته ليس إلى عموم المحافظات المصرية، ولكن إلى العالم الإسلامي كله، إلى "الكاسيت". لكن من المؤكد أن عملية التسجيل عرفت طريقها إلى مسجده "عين الحياة"؛ لأنها وجدت إقبالاً عليها، وهو ما لم ينافسه فيه أي داعية آخر، فظل غيره نجوماً محليين، شهرتهم محصورة في محافظاتهم وبالكاد بعض المحافظات القريبة منها، كالشيخ "أحمد المحلاوي" في الإسكندرية. أتحدث عن الشهرة في الأوساط الشعبية، فمن المؤكد أن الحركة الإسلامية كانت تعرف كل هؤلاء!
وتسجيل خطب الشيخ كشك، لم تقم به شركات محترفة، مثل "عايدة فون" وغيرها، لكن كان يقوم بها المصلون أنفسهم، وهناك فرد واحد قام بذلك أمام المسجد وقد جمع بين الحسنيين: الإعجاب بالشيخ والتجارة. وتعجب لهذا الأداء المتواضع، ومع هذا كان سبباً في انتقال "أشرطة الكاسيت" إلى عواصم كثيرة، لم يكن الشيخ بالغها ولو بشق الأنفس!
ربما لم يكن الشيخ يوسف البدري مشمولاً بقرارات التحفظ في أيلول/ سبتمبر 1981، الصادرة من قبل الرئيس السادات، لكن لفت الانتباه إليه كان عندما احتج على اعتقال الشيخ أحمد المحلاوي، والذي ربما كان اعتقاله قبل عملية التحفظ هذه بقليل، والدليل أن "البدري" اهتم به، في حين أن قرارات أيلول/ سبتمبر، شملت الكثير من الدعاة، من أبرزهم الشيخ كشك!
يكن الشيخ يوسف البدري مشمولاً بقرارات التحفظ في أيلول/ سبتمبر 1981، الصادرة من قبل الرئيس السادات، لكن لفت الانتباه إليه كان عندما احتج على اعتقال الشيخ أحمد المحلاوي
هدم سجن طرة
كان الشيخ يوسف البدري يخطب الجمعة في مسجد "سوق الآخرة" بضاحية المعادي، وهو قريب نوعاً ما من منطقة طرة، التي فيها "مجمع سجون"، وأعلن أنه سيقود مظاهرة إلى طرة، لتحطيم السجن وإخراج الشيخ المحلاوي منه!
وفي مقابلة صحفية، حكى لي قصة هذه المظاهرة، التي قال إنها ضمت أكثر من عشرين ألف متظاهر، وكان القرار بالسير على الأقدام للسجن. والحال كذلك، فقد اتصل به "النبوي إسماعيل"، وزير الداخلية، عبر جهاز لاسلكي خاص بأحد الضباط، فقال له قولاً لينا، وطلب من الشيخ أن يُنهي المظاهرة الآن، وفي صباح اليوم التالي (السبت)، ستكون سيارة من وزارة الداخلية أسفل منزله، لتحمله إلى مكتبه ليبحث معه موضوع الشيخ المحلاوي، ولن يخرج من عنده إلا والشيخ في يده!
وبلع الشيخ البدري الطعم، فسأل الوزير: وما هي الضمانة لأن يفي بوعده بعد فض المظاهرة؟ فكان رد الوزير: إن الضمانة، هي أن تقود مظاهرتك يوم الجمعة القادم لتهدم السجن وتخرج الشيخ المحلاوي منه!
لم تصل السيارة التي تحمل الشيخ يوسف البدري إلى مكتب الوزير في الصباح، فقد سبقتها سيارات أخرى قبل هذا بساعات، وكانت تقل "زوار الفجر" الذين شحنوه إلى السجن!
وبعد أن خرج منه بسنوات، لم يكن صيته قد ذاع، فقد كانت شهرته الواسعة بعد أن دخل السياسة من أوسع الأبواب!
كان صاحبنا من الإسلاميين الذين يحرمون الانخراط في الأحزاب، ويرون أن البرلمانات هي صنم الشرك الأكبر؛ لأنها تغتصب حق الله في التشريع. لكن حزب الأحرار عقد في منتصف الثمانينيات ندوات في مقره بالقاهرة، والذي كان مقر جريدة "النور" الإسلامية في ذات الوقت، قبل أن يصبح مقراً للجريدة الأم للحزب "الأحرار" فيما بعد، لإقناع الإسلاميين بالانضمام للحزب صاحب الدعوة، وكانت ندوات أسبوعية، حضرها الشيخ يوسف البدري ممثلاً لاتجاه الرفض، قبل أن ينتقل للاتجاه المعاكس، ويتبنى الدعوة لانضمام الإسلاميين للأحزاب!
بعد أن خرج من السجن بسنوات، لم يكن صيته قد ذاع، فقد كانت شهرته الواسعة بعد أن دخل السياسة من أوسع الأبواب
وعد السادات
كان الشيخ صلاح أبو اسماعيل (والد حازم) هو من تبنى هذه الدعوة، وكانت تقوم فكرته على أن الأحزاب تمثل حماية نسبية للإسلاميين من التربص الأمني، وأنه لا بد وأن يعمل الإسلاميون على أن يحصلوا على الأغلبية داخل البرلمان، بما يمكنهم من تطبيق الشريعة، التي وضعت كمشروعات قوانين في أدراج مجلس الشعب. وكان قد تم تقنينها، ووعد السادات بتطبيقها بعد التقنين، فلما قننت كان يسوف، إلى أن تم اغتياله. وكانت الوعود أنه سيطبقها بعد استرداد سيناء في نيسان/ أبريل 1982، بحسب اتفاق السلام الموقع مع اسرائيل، لكن تم اغتياله قبل ذلك بستة شهور، ولم يكن يثق أحد في وعوده!
كانت الدعوة إلى السنوات الأولى من عهد مبارك تطالب بإخراج مشروعات القوانين هذه وتطبيقها، ثم خفتت الأصوات، وظل الصوت الوحيد الذي يتحدث عنها هو الشيخ صلاح أبو اسماعيل، والذي كان يرى أن هذا لن يكون إلا بحصول التيار الإسلامي على الأغلبية. وكان ما يقوله يعرضه لسخرية البعض، فلم يكن كثير من الإسلاميين، إذا استبعدنا الإخوان، يؤمنون بهذا الخيار!
وبعد الثورة، سأل الإخوان عن مشروعات القوانين هذه، ليعلموا أنه في سنوات متأخرة تخلص منها الدكتور فتحي سرور، رئيس مجلس الشعب، بالحرق. وقد استدعى أحد الأفراد من خارج المجلس للقيام بالمهمة، واعترف هذا الشخص بأنه نفذ ما طُلب منه، لكن هناك من عثر عليها مجلدة ونسخة ممتازة لدى بائع للكتب القديمة في إسطنبول، بعد الانقلاب، ولا يعرف المرء سبباً لعملية التخلص هذه، رغم أن أحداً لم يعد يتكلم عن مشروعات القوانين حبيسة أدراج مجلس الشعب التي أعدها فريق من القانونيين والفقهاء!
في حزب الأحرار
في سنة 1986، انضم الشيخ صلاح أبو إسماعيل لحزب الأحرار، نائباً لرئيس الحزب، وانضم الشيخ يوسف البدري وكيلاً للحزب، وبالمخالفة للائحة التي تشترط للترقي للمواقع القيادية مرور ستة شهور من الانضمام وكسب العضوية. وفي إحدى المرات، تحدث قيادي في الأحرار عن كيف يأتي الشيخ صلاح نائباً لرئيس الحزب مباشرة، ورد عليه قيادي آخر، هو المرحوم "عبد الفتاح الشوربجي"، بأن الشيخ صلاح كان قد وقع استمارة العضوية قبل ستة شهور وأنه أعطاها له ليعلنها في الوقت المناسب، ولم يكن هذا صحيحا!
بهذا الحضور الإسلامي لحزب الأحرار، الذي لم يقتصر على الشيخين فقط، حدث تطور في نسق الاجتماعات في الحزب، فغلب الأسلوب الخطابي، والصوت المرتفع، وتداخل الأصوات من بعيد
بهذا الحضور الإسلامي لحزب الأحرار، الذي لم يقتصر على الشيخين فقط، حدث تطور في نسق الاجتماعات في الحزب، فغلب الأسلوب الخطابي، والصوت المرتفع، وتداخل الأصوات من بعيد، وكأنك في يوم الجمعة، وكأنه تداخل بين أصوات الخطباء للمساجد القريبة عبر مكبرات الصوت. شيء كان يبدو من بعيد، على طريقة: والله وتالله، وثكلته أمه، وماذا هناك، ومن هنالك. وكانت الأصوات الحادة تخترق الجدران، وتصل إلى مسامع "عم حسين" فتراه في كرب عظيم!
لم أكن أعرف ما هي وظيفة "عم حسين" في ذلك الوقت، لكنه كان رجلا هرما، وأنيقاً، تظهر على وجه بقايا عز لزمن غابر، لكن تبيّن أنه معين بوظيفة "حارس لرئيس الحزب"، ربما كان "عِشرة عمر"، جلبه من الشركة الشرقية للأقطان التي كان يرأس مجلس إدارتها قبل أن يستقيل منها ويتفرغ للعمل السياسي. ولم تكن لدى "عم حسين" أي إمكانيات تؤهله للقيام بوظيفة "الحارس"، لكن "مصطفى كامل مراد" كان أكثر من إنسان!
كان مقر الحزب في الدور الخامس، ومقر جريدة "الأحرار" في الدور الرابع، وفي صعودي وهبوطي كنت أشاهد "عم حسين" وهو يستمع للخطب الحماسية، فيعتقد أنها الحرب إذاً، وأن كارثة ستحل بالمنطقة كلها بعد قليل، وقد يقصف مبارك الحزب بالنابلم، إن لم يرسل قواته لتعتقل كل الموجودين، بمن في ذلك هو، مع أنه ليس له في "العير ولا في النفير"!
يتمايل "عم حسين" للأمام وللخلف، وكأنه في حلقة ذكر ويخبط بيديه على راحته، وهو يكلم نفسه:
- إذا مر هذا اليوم على خير.. فكله خير إن شاء الله!
تبدو المشكلة في هذا اليوم، لكن نفس الوضع والهتاف يتكرر في الاجتماع التالي!
لقد عاصر "عم حسين" نقاشات حادة داخل الحزب، وصلت إلى حد أن يرفع رئيس الحزب مسدسه على أمين إحدى المحافظات، بعد محنة انتخابات سنة 1984، فلم يحصل الحزب سوى على نصف في المئة من عدد الأصوات. وفي أول اجتماع كان "مصطفى بك مراد" غاضباً، وهو عندما يغضب تتوقع منه أي شيء، قبل أن يهدأ فيصبح وكأنه لم يكن هو، فيمكن أن يتأثر بموقف بسيط فيبكي له.
قال لي قائده في الجيش "أبو الفضل الجيزاوي" إن هذا بسبب أن دانة انفجرت بالقرب من أذنه في حرب 1984، وعاد من هناك هكذا، لدرجة أن قيادات الجيش رفضوا أن يعمل تحت قيادتهم؛ حجتهم أنه "مجنون"، لكن "الجيزاوي" قال: وأنا مجنون مثله نصلح للعمل معا. وهو من ضمه لتنظيم الضباط الأحرار بعد ذلك!
كان في الاجتماع العاصف يتهم كل من أمامه بأنهم سبب أزمة الحزب في الانتخابات، وهم كأن على رؤوسهم الطير، وإزاء هذا المشهد العصيب الذي لا تبدو له نهاية، خرجت عبارة من فم أمين الحزب بمحافظة أسوان: هزيمة الحزب أنت السبب فيها. وكان يوما مشهوداً!
لكن رغم الحوار بالمسدس، فقد كانت الخطب الحماسية الملتهبة وبكلمات عربية رصينة جديدة على "عم حسين" على نحو كان يجعله في قلق عظيم، وكأن عجلة الزمن عادت به إلى قريش أو جاءت بقريش إليه.
فمع كل هذا، فإن "عم حسين" لم يشاهد أداء من قبل كهذا.. الكلام فيه بالنحوي، والأصوات فيه مجلجلة، والعبارات تخرج مرصوصة كأن القوم من قريش، وهو لم يفهم منها شيئا، لكنه كان يشعر أنها لا بد وأن تكون خطراً على الأمن القومي للبلاد!
لا تجوز المقارنة في الفهم السياسي بينهما، فالشيخ صلاح برلماني قديم وسياسي متمكن، أما الشيخ يوسف فهو حديث عهد بالسياسة، فكان طبيعيا أن تلتهمه!
هو والشيخ صلاح
وفي الحقيقة، أن الشيخ صلاح أبو اسماعيل، لم يكن هكذا، فقد كان يعرف معنى أن يكون في اجتماع حزبي يحضره عشرين شخصاً، وليس على منبر مسجد الكخيا القريب من مقر الحزب، لكن الشيخ يوسف البدري كان هو الجهوري، والمتصنع، والغاوي لنمط الخطب المنبرية، حتى وهو يتوسل إليّ بأن بيته طاهر فلا أنجسه، عندما أخبره زميل أن العلمانيين يقضون حاجتهم وقوفا.
وكان الشيخ صلاح يجاريه أحياناً في هذا الخطاب الدعوي، بعيداً عن أعواد المنابر، وقد كانا من مدرستين مختلفتين، فالشيخ صلاح أقرب للإخوان (وقد كان إخوانيا في بداية حياته)، والشيخ البدري أقرب للسلفيين وهو ماكينة لحفظ النصوص، دون أي قدرة على إنزالها على الواقع. ولا تجوز المقارنة في الفهم السياسي بينهما، فالشيخ صلاح برلماني قديم وسياسي متمكن، أما الشيخ يوسف فهو حديث عهد بالسياسة، فكان طبيعيا أن تلتهمه!
كان الشيخ يوسف البدري هو الأقرب لرئيس الحزب من الشيخ صلاح الذي كانت زعامته منافسة، ولأول مرة في تاريخ الحزب عند التصويت على أي قرار تكون الأغلبية مع النائب وليس مع الرئيس. وسلفية البدري أفادته في هذا القرب، وهو من كان يتعامل مع "مصطفى مراد" على أنه ولي الأمر، فيسمع له ويطيع، ويعرف اتجاهاته ويؤصلها دينياً!
كان الراحل مصطفي كامل مراد يجري تعيينه في مجلس الشورى ضمن الثلث الذي يعينه الرئيس منذ بعث المجلس، وفي بعض الدورات كان لحزب الأحرار نائبان بالتعيين وليس نائباً واحداً!
كان مبارك يميل إلى أن تستمر الأمور على ما هي عليه، ويتشاءم من أي تغيير، فيحافظ على الدولة بشخوصها كما ورثها من السادات
بعد السماح بدخول الإسلاميين الحزب، وإطلاقه لحيته، وتبني جريدة الحزب للخط الإسلامي والدفاع عن المعتقلين ونحو ذلك، كان مقرراً ألا يعيّن الرئيس مبارك من جديد مصطفى كامل مراد في مجلس الشورى، وكانت عضويته قد انتهت. ومن هنا، تكلم الشيخ صلاح بثقة في مؤتمر جماهيري بأن الحزب لن يقبل عضوية مجلس الشورى بالتعيين، فمن يمد يده لا يمد قدمه!
ورغم أن مبارك لم يكن سعيداً بالخطوة الجديدة للأحرار، إلا أنه كان يميل إلى أن تستمر الأمور على ما هي عليه، ويتشاءم من أي تغيير، فيحافظ على الدولة بشخوصها كما ورثها من السادات، فصدرت التعيينات ومصطفي كامل مراد من بين المعينين!
وعُقد اجتماع حزبي عاصف لمناقشة قبول التعيين من عدمه، وكانت فرصة ليوسف البدري ليظهر مهاراته الدينية فخطب وصال وجال، وأوصل الأمور إلى أن رئيس الحزب يأثم إن رفض التعيين؛ لأن مبارك قال له "تعال أشر عليّ"، فواجب عليه دينياً ألا يتقاعس عن إسداء النصيحة. وساق نصوصا دينية كثيرة تؤكد وجهة نظره، وكان الخطاب أيضاً بنفس النغمة وبنفس طريقة الإلقاء، فكان "عم حسين" قلقاً أيضاً، ويحدث نفسه بأن هذا اليوم لو مر على خير فكله خير. ربما لأن هذا الصوت المرتفع، وهذا الكلام العظيم، لا يمكن أن يأتي سوى في سياق الهجوم على مبارك رأسا.
اكتسح الوزير
وقد حدثت أكثر المواقف عصبية في تاريخ الشيخ البدري، عندما خاض الانتخابات البرلمانية في سنة 1987، وأسقط وزير الإنتاج الحربي "جمال السيد" في عقر مصانعه الحربية، وهو ما أفقد الشيخ اتزانه تماماً.
كانت الانتخابات تجرى بنظامي القائمة الحزبية والمقعد الفردي، وكان الأخير يضم ربع محافظة كالقاهرة، أو نصف محافظة كسوهاج، وقد رشح الحزب الحاكم في كثير من الدوائر وزراء، باعتبار أن جميع مرشحي الحزب الوطني سيعملون في خدمتهم وفي الدعاية لهم، ثم إنه يمكن تزوير الانتخابات لهم لعدم وجود منافس جاد لمن يملك صلاحيات الوزير في التعيين والترقي. وهي الانتخابات التي شهدت ما سمي بالتحالف الإسلامي، الذي ضم حزبي العمل والأحرار بجانب جماعة الإخوان المسلمين، ولم ينجح للمعارضة على المقعد الفردي سوى مرشحين، الأول هو الشيخ صلاح أبو اسماعيل، وهو صاحب شعبية كاسحة، والثاني هو يوسف البدري وقد مثل نجاحه مفاجأة!
الحكومة لم تأخذ أمر ترشيح البدري بجدية، وعندما انتبهت لشعبيته، لم يكن أمامها من سبيل سوى التزوير الفج الذي كان سيؤدي حتماً لانفلات الوضع الأمني
ولأن الأمر لم يكن متوقعاً بل ومفاجئاً، فكان هناك كلام تردد في وسائل الإعلام في الداخل والخارج عن أن الحكومة زورت الانتخابات لصالح مرشح المعارضة، لتثبت أنها انتخابات نزيهة. ولم تمل الحكومة من نفي هذا، فالمشكلة أن الحكومة لم تأخذ أمر ترشيح البدري بجدية، وعندما انتبهت لشعبيته، لم يكن أمامها من سبيل سوى التزوير الفج الذي كان سيؤدي حتماً لانفلات الوضع الأمني. ثم إن كثيرين من العاملين في المصانع الحربية المقيدين في هذه الدائرة كناخبين، لم يكن يُعرف أنهم يمكن أن يخذلوا الوزير ويصوتوا للشيخ يوسف البدري، فإذا عُرف أنصاره وتم منعهم من التصويت، فمن يعرف نوايا هؤلاء؟!
ومشكلة يوسف البدري نفسه، أنه انطلق يدافع عن نزاهة الانتخابات في كل المحافظات بالقياس على دائرته، ولم يكن هذا صحيحا على النحو الذي كشفته أحكام القضاء، التي قضت بصحة عضوية 78 مرشحاً؛ كان المثير أن وزير الداخلية زكي بدر منحهم بطاقات العضوية بحجة أنه ينفذ حكماً قضائياً لمجرد إخلاء مسؤوليته، لكنه في الواقع كان يغيظ رفعت المحجوب، رئيس البرلمان الذي رد التحية بأفضل منها بأن سحب اختصاص منح بطاقات العضوية من الأمن، ليصبح من اختصاص الأمانة العامة في المجلس.. لكن لم يتم التنفيذ الحقيقي لأحكام القضاء إلى أن تم حل المجلس بحكم قضائي في سنة 1990!
كان فوز الشيخ يوسف البدري يفوق أكثر أحلامه جنوناً، ولم يجد من يحتوي هذه الحالة فذهب بعيداً، وكان مؤهلا لذلك، حتى وجد نفسه في منفى، وهو من كان يطمع في جوار السلطة، وقد همّت به وهمّ بها، حتى ظن أنه في جوارها، ليكتشف أنه خسر بلح الشام وعنب اليمن، فلا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى!
كان فوز الشيخ يوسف البدري يفوق أكثر أحلامه جنوناً، ولم يجد من يحتوي هذه الحالة فذهب بعيداً، وكان مؤهلا لذلك، حتى وجد نفسه في منفى، وهو من كان يطمع في جوار السلطة
دخل على الأستاذ "محمد عامر" رئيس تحرير "الأحرار" في مكتبه، وهو في حالة ابتهاج بعد فوزه، وهو يهتف فرحاً هتافاً ربما كانت تردده الجماهير في دائرته: "ما فيش تزوير.. ما فيش تزوير.. يوسف البدري اكتسح الوزير"!
لكن "عامر" كان "درعميا" مثله (كلاهما تخرج في كلية دار العلوم)، وكان يميل للأسلوب الخطابي والحديث بالنحوي مثله أيضا، بما يليق بمرحلة الحضور الإسلامي في الحزب، فلم يبارك له، ولم يهنئه بعضوية البرلمان، ولكن استقبله صائحا:
- "نجحوك لكي يستقطبوك"..
يقصد بذلك أهل الحكم.. وأوجعت العبارة الشيخ فقال له:
-"كذبت.. كذبت.. كذبت" وهو يشير له بإصبعه وفي خيلاء.. ألم أقل إنه يميل للأداء الاستعراضي بشكل عام!
أول القصيدة
في الجلسة الأولى للبرلمان وقف مستعرضا، ليطلب بوقف القروض الربوية من الدول الخارجية. كان يريد أن يلفت الانتباه إليه، ويؤكد انحيازاته الدينية، ولم تكن هناك مناسبة لذلك، لكن الذي بدد هذه "الطلعة الجوية" أنه كان في مواجهة واحد من أذكى رؤساء البرلمان المصري، وأكثرهم لباقة وحضورا، وهو الدكتور رفعت المحجوب، الذي عاجله بالقول:
- القروض تدخل في باب المصالح المرسلة يا شيخ يوسف.
وأردف:
- وعلى كل نرجو أن تستغل علاقاتك بالدول الخارجية وتأتي لمصر بقروض بدون فائدة.
ومن الواضح أن الردود فاجأت الشيخ فقال:
- سأحاول..
فما هي إمكانيات أي نائب ليُطلب منه طلباً كهذا؟ وأي دولة تتعامل في أمر كهذا مع مجرد نائب؟!
لقد جلس الشيخ البدري، لينشغل الناس بالمقصود بالمصالح المرسلة الذي ذكره رفعت المحجوب، ولم يجدوا في موقف البدري ما يستحق الاهتمام، لا سيما مع هذه النهاية والردود التي أفحمته حتى وإن لم تكن مفحمة، فيكفي أنه جلس.
جلس الشيخ البدري، لينشغل الناس بالمقصود بالمصالح المرسلة الذي ذكره رفعت المحجوب، ولم يجدوا في موقف البدري ما يستحق الاهتمام
في موقف آخر، وكان الشيخ النائب يحدث جلبة في القاعة، خاطبه المحجوب بقوله:
- يوسف.. أعرض عن هذا!
هكذا يوسف، لا الشيخ يوسف، ولا سيادة النائب، وربما أعجب رفعت المحجوب النسقُ القرآني، وكان مفوهاً: "يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك..". لكن واضح أن "السياسي العُقر" كان قد توصل مبكراً إلى أن "يوسف البدري" ليس الرجل الذي تخيلوه.. يقود مظاهرة لهدم سجن، ويخوض الانتخابات فيسقط وزيراً من أولي العزم، ويُحدث كل هذه الجلبة في وسائل الإعلام!
كانت الفراشة تقترب من مصدر الضوء على وشك أن تلتصق به فتحترق، وكان الراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه!