قضايا وآراء

هل ينجح الأردن في استعادة عمقه الاستراتيجي؟

1300x600
1300x600

يعاني الأردن من هامش مناورة ضيق بفعل تصارع المحاور الإقليمية  والقوى الدولية معمقا أزمته الاقتصادية والاجتماعية الداخلية التي رسمت ملامحها مؤخرا جولات التفاوض الصعبة مع صندوق النقد الدولي ؛ دافعا المملكة للبحث عن عمقه الاستراتيجي المفقود والضائع في سوريا والعراق؛ مسالة تواجهها تحديات كبيرة أبرزها حالة الاستقطاب في الساحة الدولية والإقليمية بين المعسكرات والمحاور المتناحرة.

فعلى المستوى الدولي، برزت الحرب التجارية الأمريكية الصينية وسباق التسلح المرتقب بين روسيا وأمريكا كعائق أمام توسيع هامش الحركة لدية؛ في حين برزت التفاعلات الناجمة عن أزمة حصار قطر والأزمة السورية واليمنية والتصعيد المتواصل بين ايران والكيان الإسرائيلي والموقف التركي من أزمة خاشقجي والأكراد كقضايا إقليمية تتهدد حرية الحركة لدى المملكة الأردنية.

تنافس القوى الدولية والإقليمية وتصارعها ادخل الأردن في بؤرة التجاذب الإقليمي والدولي لتنعكس في واقعة الاقتصادي؛ فالمنطقة تترقب اجتماع وارسو في بولندا مستهدفا طهران في حين تسير الخطى حثيثا لاستكمال التحضيرات للقمة العربية في ظل أجواء صراعية تتجاذبها المواقف من الأزمة السورية والموقف من ايران وتركيا والتحولات الكبرى في العراق واليمن.

في ضوء هذ ا المشهد المتأزم يلاحظ سعي عمّان لتوسيع هامش تحركها الذي يكاد يختنق بالصراعات الإقليمية والدولية وتفاعلات الأزمة الاقتصادية الداخلية مولدة بذلك حراكا أردنيا إقليميا يتسم بقدر عالي من الحساسية والدقة؛ عبر عنه باستضافة المملكة الأردنية الخميس 31 كانون الثاني الفائت الاجتماع السداسي في البحر الميت ليضم وزراء خارجيته ( الكويت والإمارات العربية والبحرين والسعودية ومصر ) منهيا أعماله دون الخروج ببيان ختامي ملزم للأطراف تجاه عدد من القضايا المهمة ؛ ابرزها ايران وتركيا وعودة سوريا إلى الجامعة العربية؛ تاركا لعمّان هامش واسع للتحرك في فضائه الإقليمي وجواره الجغرافي؛ إذ سارع رئيس الوزراء عمر الرزاز إلى توقيع 14 اتفاقية تجارية مع العراق في لقاء احتفالي ضم أعضاء الحكومة العراقية على راسهم رئيس الوزراء عادل عبد مهدي في معبر طريبيل الرابط بين الأردن والعراق السبت 2 شباط \ فبراير الحالي؛ لقاء سيتبعه مزيد من التوسع والانفتاح يشمل زيارة وفود برلمانية أردنية إلى العراق ؛ مسالة توحي بغياب الممانعة الإقليمية للتحركات الأردنية وعلى راسها تركيا وايران.

في ذات اليوم الذي وقع فيه الأردن الاتفاقات مع العراق وتوسع فيه النشاط في معبر طريبيل زار الملك عبد الله الثاني تركيا؛ اتبعها بزيارة سريعة إلى تونس ما أوحى بان السياسة الأردنية حسمت أمرها بضرورة توسيع حراكها السياسي بكافة الاتجاهات متحررة من كافة القيود؛ خصوصا وأن الاجتماع السداسي في البحر الأحمر تجنب الخروج ببيان ختامي ملزم للأطراف المجتمعة تاركا هامش واسعا من الحركة للدبلوماسية الأردنية قبيل انعقاد مؤتمر وارسو والقمة العربية في تونس.

فالعراق وسوريا بالنسبة للأردن عمق استراتيجي حقيقي امنيا وسياسيا واقتصاديا وحيويا ؛ وانهيار الأمن في البلدين افضى إلى أزمة لجوء وتولد عنه تهديد امني وتراجع اقتصادي كبير مهددا علاقاته بالفضاء الإقليمي الأوسع ومربكا إدارته للملف الفلسطيني؛ حقائق تفسر الحرص الأردني على توسيع فضائه الاستراتيجي لتوسيع خيارته واستعادة توازنه الأمني والسياسي والاقتصادي .

الحراك الأردني الإقليمي تزاحمت فيه الدوافع الاقتصادية على المستوى الداخلي والخارجي  والملف الفلسطيني الذي شهد تطورات مهمة في الضفة الغربية فاقمها الإعلانات الأمريكية المتكررة لكشف بنود صفقة القرن؛  إذ انصب الجهد الأردني على تجنب الدخول في دائرة الاستقطاب والتصارع الإقليمي ونزع نحو لعب دور الوسيط بما يخدم مصالحة إذ وجه الدعوة إلى قطر للانضمام إلى الاجتماع السداسي العربي في البحر الميت؛ وذهب ابعد من ذلك باستضافة المفاوضات اليمنية التي تضم معسكر الشرعية والحوثيين على امل التوصل إلى حلول فيما يتعلق بملف الأسرى؛ وهو بذلك اتخذ مسارا جديدا في تعامله مع أزمات المنطقة ومحاورها المتصارعة بحثا عن التوازن الداخلي والإقليمي.

رغم الجهد الأردني الكبير خلال الأسبوعيين الفائتين لتجاوز أزمته الاقتصادية  وصراع المحاور المحتدم إلا أن المعوقات والتحديات ازدادت قوة وخطورة ؛ فالكيان الإسرائيلي وطوال أسبوعين عمد إلى سياسة ضبابية تهدف للتشويش وإعاقة التحرك الأردني باتجاه سوريا والعراق معلنا عن افتتاح مطار (رامون) بالقرب من ميناء العقبة مهدد بذلك الممرات الجوية والبحرية؛ اتبعه الإعلان عن افتتاح (جسر السلام) على الحدود الأردنية مع فلسطين المحتلة كمركز لإنشاء منطقة تجارية متزامنا مع افتتاح رئيس الوزراء الرزاز للمنطقة الصناعية في المفرق بالقرب من الحدود العراقية؛ فالكيان الإسرائيلي يسعى حثيثا لإرباك  وإعاقة التحركات الأردنية نحو محيطة وعمقه العربي والإسلامي وجذبه نحو أطماعه الجيوسياسية الممتدة نحو الخليج العربي.

 فنتنياهو واصل جهوده لتعميق خروقاته الاقتصادية مفاخرا بتصدير الغاز إلى الأردن  ومبشرا بانعكاس ذلك على رفاه المستوطنين في الأراضي فلسطين المحتلة؛ بل واظهر كثيرا من العنجهية عندما اعلن عن موافقته المبدئية على اطلاق مشروع ناقل البحريين مسرعا الجهود والضغوط الهادفة لربط الأردن بالمعابر والمشاريع الإمبريالية التطبيعية الصهيونية؛ ساعيا إلى إحراج الأردن وتقيدها بمشاريع إقليمية ممتدة إلى عمق الجزيرة العربية والخليج العربي بعيدا عن طموحا ت الأردن وتوجهاته الحقيقية القائمة على الاعتماد على الذات وبناء دولة الإنتاج ليتحول إلى مجرد معبر أو رصيف للبضائع الصهيونية؛ كما يطمح نتنياهو وحلفائه.

لم يقتصر الأمر على الاستفزاز الصهيوني فالأردن يعاني من قلق كبير نتيجة تطور الأوضاع في الضفة الغربية والأراضي المحتلة والنوايا الأمريكية لكشف بنود صفقة القرن ما يهدد بانفجار المزيد من الأزمات في المنطقة؛ علما بان الكونغرس الأمريكي بدءا عمليا بمناقشة قانون ( الشرق الأوسط ) والذي يتضمن رفع قيمة المساعدات المقدمة للأردن بأكثر من مليار وسبعمائة مليون دولار لتبلغ قيمته النهائية 3 مليار دولار امر يجد فيه الأردن فرصة كبيرة ومهمة لتجاوز أزمته الاقتصادية؛ غير أنها في ذات الوقت تمثل تحديا سياسيا كبيرا للمملكة وتزيد حساسيته لمتغيرات البيئة الإقليمية المتوترة خصوصا بين ايران وتركيا من جهة وأمريكا من جهة أخرى.

يتحرك الأردن في هامش سياسي ضيق ما يجعل من أي أزمة داخلية مهما صغرت مصدرا للقلق والإرباك والتوجس والتشكك في ظل الضغوط الكبيرة التي يتعرض لها والتي تقابلها رغبة جامحة لتوسيع خيارته؛ فالأزمات الداخلية وعلى راسه الاقتصادية والسياسة المعبر عنها بمراكز القوى تتهدد استقرار مؤسساته التشريعية والحكومية مقدمة دفعة قوية لحراك الشارع والاحتجاجات المتكررة في الرابع التي تصعد وتخبو على وقع اللقاءات والزيارات المتكررة لصندوق النقد الذي بدا بمراجعات تهدف لإعادة الهيكلة المالية والإدارية؛ فالأزمات مهما صغرت أو كبرت تضعف مصداقية الحكومة والحراك السياسي الخارجي الأردني وتزيد من منسوب التوجس من وجود جهات خارجية تسعى للاستثمار في أزمته الاقتصادية الداخلية؛ مسالة بات الملك عبد الله الثاني يتعامل معها بطريقة مختلفة بسرعة تحركه وقوة حضوره في الساحة الداخلية ؛ كان آخرها تدخله المباشر والسريع لمعالجة مشكلة تعيين عدد من أشقاء النواب في مناصب حكومية رفيعة. 

ختاما تسارعت الجهود السياسية الأردنية في المرحلة الأخيرة بتوسيع دائرة علاقاته متجاوزا حالة الاستقطاب الإقليمي والدولي الحادة؛ مدفوعا بأزمته الاقتصادية الداخلية؛ ورغبته الجامحة لاستعادةالتوازن باستعادة عمقه العربي في سوريا والعراق وتوسيع مروحة علاقاته سواء على المستوى الاقتصادي والسياسي؛ فاختلال الموازين بين المحاور وتصارعها تولد عنه ضغوط قوية على المملكة في العديد من الملفات وأبرزها الملف الفلسطيني؛ وتفاقم مخاطر التغول السياسي والاقتصادي للكيان الإسرائيلي ؛ وهي تحديات لا تقل أهمية وخطورة عن التحدي الاقتصادي والسياسي الداخلي الذي تتجاذبه حقائق اجتماعية وسياسية  ومراكز قوى متنافسه وإصلاح سياسي متعثر وبطئ؛ ما يجعل من واستعادة العمق الاستراتيجي المدخل الطبيعي لاستعادة التوازن ومواجهة الأزمات الداخلية والخارجية؛ وهي عملية حساسة ودقيقة تشمل التحرك في مساحة واسعة تشمل تركيا وتقترب من ايران ودول الخليج وروسيا وأمريكا في أن واحد؛ فهل ينجح الأردن في مسعاه وهل يعمل عنصر الزمن لصالحة؟ أسئلة الإجابة عليها ستبقى مبهمة.

0
التعليقات (0)