هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
جسديا، مات جورج هربرت بوش (1924 ــ 2018)، وهذا مآل البشر وسنّة
الحياة. لكنّه، في ناظر الآلاف، وربما الملايين، من ضحايا سياساته في مشارق الأرض
ومغاربها، سوف يواصل العيش على هيئة قاتل تارة، ومجرم حرب طورا؛ أو مجرّد الرئيس
الـ41 للولايات المتحدة. ليس لأنه اقتدى بأسلافه الرؤساء في ممارسة قبائح القوّة
العظمى الأولى كونيا، فحسب؛ بل كذلك لأنه لم يكن مرشحا لدخول التاريخ من أية
بوّابة، واسعة أم ضيقة، لولا ضربة الحظّ التي وفّرها له رجل واحد وحيد يُدعى صدّام
حسين، حين اجتاح الكويت وقدّم الذريعة الفريدة كي تعسكر الولايات المتحدة في قلب
الخليج العربي.
تلك كانت الفرصة الذهبية الوحيدة، والدراماتيكية بكلّ المقاييس، التي
مكّنت بوش أخيرا من إسباغ المعنى على رئاسة شبه جوفاء، واختلاق القنطرة التي أتاحت
ذلك العبور العجيب: من سأم اليانكي المعاصر جرّاء اختتام الحرب الباردة، إلى إشعال
حرب فعلية وقودها مئات الآلاف من الضحايا.
ومنذ
عام 1964 (حين تولى رئاسة الحزب الجمهوري في مقاطعة صغيرة في ولاية تكساس، وكان
الجمهوريون يومئذ يعدّون على الأصابع)؛ وحتى منتصف عام 1990 (حين اجتاحت القوّات
العراقية الكويت)؛ لم يكن أحد يعرف على وجه الدقة السبب الذي يجعل بوش يشغل الموقع
الذي يشغله… أيا كان! ورغم أنه ظلّ شخصية عامة معروفة طيلة 20 عاما، فإنّ أحدا لم
يتمكن من توصيف معتقداته وفلسفته السياسية: فمن جهة أولى، لم يكن الرجل مستعدا
لإعلان شيء منها (بافتراض وجودها أصلا!)؛ ومن جهة ثانية، كان دائم الاستعداد
لتبديلها واعتناق فلسفة المحيطين به في هذه الحقبة أو تلك. كان تارة جمهوريا
معتدلا أقرب إلى خطّ نلسون روكفلر، وطورا محافظا متشددا يصرف سحابة نهاره في ترداد
مقولات رونالد ريغان؛ ولكنه ظلّ، كما وصفته أسبوعية «إيكونوميست» البريطانية، «لا
يؤمن بشيء ما خلا ذاك الذي يسمح بتوطيد مواقعه، ولا يقوده شيء ما خلا العجالة في
ارتقاء سلّم السلطة»!
وبعد
انتخابه أواخر سنة 1988، بدا وكأنّ الأحداث تسير لصالحه تماما: انهيار
الإمبراطورية السوفييتية، العلاقة المريحة مع ميخائيل غورباتشوف، الانسحاب
السوفييتي من أفغانستان، خفض الأسلحة والقوّات، نهاية الحرب الباردة و«انتصار
الرأسمالية»، بل نهاية التاريخ نفسه حسب فرنسيس فوكوياما… ماذا يريد أكثر؟ كان
ينقصه أمر واحد في الواقع، وهو حلّ معضلة تراجع الدور القيادي للولايات المتحدة في
أوروبا واليابان خصوصا، وذلك بعد اضمحلال الخطر الشيوعي.
وكانت
الإدارة تنقسم إلى محورَين: جيو ــ اقتصادي يدعو إلى تحجيم المؤسسة العسكرية
الأمريكية والتركيز على استثمارات هائلة في ميادين العلوم والتكنولوجيا والتجارة
لمجاراة اليابان وألمانيا؛ ومحور جيو ــ ستراتيجي شدّد على دور للولايات المتحدة
أكثر رسوخا وتعاظما في «رعاية» الغرب وحماية التجارة وموارد الموادّ الخام ضدّ
تهديدات كامنة هنا وهناك في العالم. وجاء الاجتياح العراقي للكويت لكي يدحر دعاة
الخطّ الأوّل، ولا يرجّح كفّة دعاة الخطّ الجيو ــ ستراتيجي، فحسب؛ بل يعيّن
أمريكا شرطي الكون الأوّل والأوحد، ويطلق «النظام الدولي الجديد»، ويحوّل الرئيس
من شخص عاطل عن العمل تقريبا، إلى «طبعة أمريكية من الإسكندر الأكبر الذي عبر نهر
الروبيكون» كما كتب هنري كيسنجر.
لم
يكن ينقصه، استطرادا، سوى شركاء من قارعي طبول الحرب، أمثال مارغريت ثاتشر وإدوارد
شيفارنادزة، وأناس من أمثال الملك السعودي فهد، ممّن يستعينون بأسد كاسر لردّ
الذئب عن ديارهم، وتشكيلة من العملاء والزبائن والمرتزقة. ولأنه لم يكن ثمة شكّ
حول الموقع الذي يطمح إلى احتلاله في التاريخ، فإنّ هذه كانت، على وجه الدقة،
اللحظة والأزمة والمناخات التي احتاج إليها بوش. ولقد تردّد أنه، في الأيام الأولى
التي أعقبت اجتياح الكويت، كان يطيل الوقوف أمام صورة أبراهام لنكولن وهو يتمتم:
«لقد خاض اختبار النار، وأثبت عظمته». وفي 11 أيلول (سبتمبر) 1990، ظهر على شاشات
التلفزة لا كما ظهر أو سيظهر في أيّ يوم، وألقى خطبة العمر، وبريق إمبراطوري عارم
يلتمع في عينيه: «الأحداث الراهنة برهنت على عدم وجود بديل عن القيادة الأمريكية.
لا يشككنّ أحد بعد اليوم في مصداقية الولايات المتحدة. لا يشككنّ أحد في قوّتنا
الآبدة»…
ولقد
كانت حربا «بهيجة» حقا… قصيرة ونظيفة وظافرة، بحفنة من القتلى الأمريكيين، وبأعلام
تخفق، وشرائط صفراء ترفرف، وملايين تحتفل في الشوارع. ما هَمّ أن يكون العراق قد
دُكّ إلى خراب القرن التاسع عشر، وما الفارق في أن تكون أعداد الضحايا 100 ألف أو
200 ألف؟ مانشيتات صحيفة «وول ستريت جورنال» لخّصت الموقف هكذا: «روح انتصار 1991
تطرد أشباح سنوات فييتنام»، و«الأجواء الانهزامية تتبخر»، و«كلمة متقاعد حرب
تستعيد مكانتها من جديد»… لكنّ كلاب الحرب التي أيقظها بوش على رمال الصحراء
وأطلقها في أرض ومياه وسماء العراق، انتقلت إلى أمريكا وأخذت تعوي في شوارعها
الفارهة قبل أزقتها البائسة. كانت الأزمات الاقتصادية تتوالى، والمرشّح الديمقراطي
الصاعد بيل كلينتون يُحْسن توظيف شعار «إنه الاقتصاد يا غبي!»، والأزمات
الاجتماعية تتفاقم، والمستقبل يلوح قاتما أكثر فأكثر.
وبات
الشارع يصغي إلى خطابَيْن اثنين عمليا: ذاك الذي يهتف به بوش: «نحن الرقم واحد،
ساعدوني لكي أضمن بقاء أمريكا في موقع الأمّة الأعظم»؛ وخطاب أجاد اختزاله الكاتب
الأمريكي غور فيدال: «ما الذي يجعلني أهتمّ بصدّام حسين إذا كانت شرطة لوس أنجلوس
أشدّ قسوة منه»؟ وهيهات لرئيس يتربع على كلّ هذا الخراب أن يُهدى رئاسة ثانية،
وأمام خصم مراوغ أريب مثل كلينتون؛ خاصة وأنّ الأمريكي العادي كان يقضي النهار
والليل وهو يتحسس محفظة نقوده، وعينه على الفواتير والضرائب والرسوم. وهكذا، في
صبيحة 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 1992 شيّع الناخب الأمريكي هذا الرئيس/ الإسكندر
الأكبر إلى مزبلة التاريخ، حسب الاستعارة الشهيرة التي نحتها ليون تروتسكي وكان ــ
يا لمفارقات التاريخ! ــ بين أوائل ضحاياها.
فبأيّ
زاد سوف يدخل التاريخ حين سيوارى جثمانه الثرى؟ رئاسة الولايات المتحدة لم تكن في
أيّ يوم كافية لاحتلال مكانة رفيعة في أدراج التاريخ وطبقاته، وهي قطعا لم تكن
كافية بالنسبة إلى هذا الرئيس الـ41 تحديدا، رغم «درع الصحراء» و«عاصفة الصحراء»
و«طرد أشباح فييتنام». وفي الأصل كان صعوده إلى سدّة الرئاسة نتيجة اجتماع عاملين لا
يخلو أيّ منهما من طرافة خاصة: ضعف خصمه مايكل دوكاكيس، ونزوع شعبوي أمريكي لرؤية
مثيل جون واين، بعد رونالد ريغان، في البيت الأبيض! وإلى جانب سجله القاتم في
العراق، أشرف بحماس على تنظيم عملية تهجير 800 يهودي إثيوبي إلى دولة الاحتلال،
كما أدلى بالصوت المرجح (50 مقابل 49) في مجلس الشيوخ لصالح إنتاج نوع جديد من
أسلحة غاز الأعصاب.
وكان
جيمس بيكر، مساعد بوش ووزير خارجيته لاحقا، قد قضى ساعات طويلة من التفاوض الشاق
لكي تتوقف أسبوعية «نيوزويك» الأمريكية عن وصف رئيسه بـ«الخرع»؛ بالنظر إلى أنّ
الرئاسة كانت خاوية رتيبة مملة، لا حرب باردة فيها ولا حرب نجوم، لا شيوعية ولا
«عدوّ أحمر» ولا مكارثية… حتى مثّل اجتياح الجيش العراقي للكويت الذريعة الأهمّ
لنفض الغبار عن رئاسة خاملة. وليست مبالغة في التشديد، استطرادا، على أنّ جورج
هربرت بوش يغادر هذا العالم وفي عنقه دين باهظ مستحقّ لأبرز الدائنين: صدّام حسين!
عن صحيفة القدس العربي