هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في العالم العربي يمكن أن تدفع حياتك ثمنا لتغريدة على «تويتر» أو
تعليق على «فيسبوك» أو ثمنا لمقال أو كلمة تتفوه بها في حافلة عمومية أو تاكسي، أو
ربما تدفع حياتك ثمنا لمجرد «شُبهة» على طريقة الفيلم المصري «احنا بتوع الأوتوبيس».
وقبل
أكثر من ثلاثة عقود، كتب الشاعر العربي المنفي أحمد مطر قصيدته الشهيرة مخاطبا
فلسطين بقوله: «كل الذي أملكهُ لسان.. والنطقُ يا سيدتي أسعاره باهظةُ، والموتُ
بالمجان.. سيدتي أحرجتني، فالعمرُ سعر كلمة وليس لي عُمران».. وقد أصبح العمرُ كله
بالفعل سعر كلمة واحدة يتفوه بها الإنسان العربي، ويتبين لنا يوميا أن الشاعر لم
يكن يبالغ عندما قالها.
جريمة
اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي فجّرت فيضانا من الأسئلة في أدمغتنا، فليس
مهما إن كانوا قد قطّعوه بالمنشار بعد قتله أم تركوه على حاله، وليس مهما إن كان
جثمانه قد ووري الثرى في جنازة مهيبة أو أنهم ألقوا به في غابة أو بحيرة، إذ أن كل
هذه التفاصيل لا تضيره بعد موته..
لكن السؤال الأهم هو: لماذا قتلوه؟ كيف يتم قتل شخص عقابا له على مقال صحافي أو كلمة أو رأي لا يروق لهم؟ وكيف تتم تصفية إنسان بسبب موقفه السياسي؟ وهل يمكن أن يكون الموت هو عقوبة الشخص الذي ينتقد ما يجري في بلده؟ أم أنه «جنون الاستبداد» الذي تشهده المنطقة العربية، وفي الجنون لا توجد أجوبة على أي أسئلة، وليس ثمة منطق في ما يجري.
يهوي العالمُ العربيُ نحو مزيد من
الطغيان والاستبداد والاستخفاف بحياة البشر، والسبب الرئيس وراء هذه الموجة المجنونة
من الاستبداد هو النجاح النسبي للثورات المضادة في السنوات الأخيرة، و»الثورات
المضادة» هو مصطلح نشير به لانتفاضة الأنظمة على شعوبها، ردا على الهبة الشعبية
العربية التي أطاحت بعدد من الأنظمة عام 2011. نجاحُ أنظمة الاستبداد في «تأديب»
شعوبها وكنسهم من شوارع الاحتجاج خلال الفترة الماضية، دفع بعض الأنظمة العربية إلى
الشعور بحالة غير مسبوقة من نشوة الانتصار، هذه النشوة ترافقت مع غياب القانون
وغياب الرقابة على أعمال الحكم، ما أدى في نهاية المطاف إلى بلوغ الاستبداد
والطغيان والقهر إلى مستوى غير مسبوق دفع ثمنه الناس العاديون، وما زالوا يدفعون.
حالة
القهر التي تعيشها شعوب العرب وتحوّل الاستبداد إلى غول يقتل الناس وينهش أجسادهم،
وتدني أسعار البشر في العالم العربي حتى أصبح من الممكن أن يكون الإنسان العربي
بشحمه ولحمه وعمره ثمنا لكلمة واحدة ينطق بها، أو ثمنا لمقال صحافي ينشره في صحيفة
أجنبية.
هذه الحالة لا يمكن أن تؤدي إلى الاستقرار مطلقا، ولا يمكن أن تستمر طويلا؛ لأن الثورات العربية التي انطلقت عام 2011 جاءت في أعقاب موجة استبداد أقل مستوى من هذه الموجة الراهنة.
والخلاصة
هنا، هو أن ثمة تحول في المنطقة العربية سيأتي لا محالة، لأن استمرار الأوضاع
الراهنة على حالها مستحيل، ولأن الله غالب على أمره، ولأن القمع والقهر والاستبداد
والطغيان عمره قصير، ولأن الباطل ساعة، بينما الحقُ إلى قيام الساعة.
عن صحيفة القدس العربي