هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
اهتز العالم لحادثة اختفاء جمال خاشقجي في مبنى القنصلية السعودية في إسطنبول و فقد الأمل بإمكانية وجوده حيا وذلك وفق التسريبات والتحقيقات في أحداث يوم الثاني من تشرين الأول/أكتوبر 2018.
لكن ما وقع مع جمال يفتح الباب أمام السؤال الأكبر: لقد تمت تصفية الكثير من المعارضين والصحافيين في العالم، ولم تقع ردود فعل من النمط الذي يخترق الكوكب طولا وعرضا.
لكن بعض الأحداث التي وقعت في السنوات و العقود القليلة الماضية فاجأت العالم بتحولها لإعصار مدو غير أنظمة وأبعد قادة. فما هو هذا السر الكوني بين القوة والضعف وبين السلطة ومعارضيها الذي يخلق تحولات يصعب التنبؤ بنهاياتها؟
عند التدقيق سنكتشف بأن حادثة اغتيال المعارض الأهم لنظام ماركوس في الفيليبين بينينو أكينوا عام 1983 والذي كان في منفاه الاختياري منذ العام 1980 هي من هذا النمط الفريد من الأحداث التي تتحول لإعصار. وبينما كان أكينوا ينزل من سلم الطائرة في وطنه الفيليبين في يوم عادي من ايام أب/أغسطس 1983 أطلقت عليه النيران من قبل مسلح وصل خصيصا لقتله. كان بأمكان الأمر أن يمر بصفته حادثا غريبا قامت به عصابة، لكن الشك (مجرد الشك) أن الرئيس ماركوس مرتبط بالحادثة غير كل الأبعاد وأثار كل الناس.
الناس بطبيعتها ترفض السلطة المطلقة، فما بالنا إن دخلها الشك بسبب عدم شفافية النظام حول ضلوع السلطة بتصفيات جسدية وعمليات قتل بلا رادع؟ لهذا أدى مقتل عضو مجلس الشيوخ وزعيم المعارضة أكينوا لإستنكار ما بعده استنكار.
تلك الحادثة فتحت الباب لتحول زوجة القتيل المعارض من ربة منزل غير معروفة الى قائدة لأكبر حراك شعبي سلمي لإسقاط حكم ماركوس. في العام 1986 سقط ماركوس ووصلت كورازون أكينو زوجة المعارض المغدور للرئاسة.
وقد سميت كوروزون أكينو بسبب حراكها بأم الديمقراطية في آسيا بسبب انتشار حراكات ديمقراطية في آسيا تشبه حراكها. يقال إن للأنظمة المطلقة نقاطا عمياء كثيرة، وهذا ما حصل تماما مع ماركوس أو بعض المحسوبين عليه بسبب تصفية قائد المعارضة.
يمكن تقديم مثل آخر من تجربة الربيع العربي والثورات العربية عام 2010. فكم من شخص أحرق نفسه قبل بوعزيزي احتجاجا على سوء معاملة. لكن في لحظة ما وقع شيء مختلف، فعندما أحرق بوعزيزي نفسه في 17ـ 12ـ 2010 تحول هذا الإنسان لمنافس حقيقي للرئيس التونسي بن علي. فجأة تساوى بائع الخضار والفواكه على عربة متنقلة مع الحاكم صاحب السلطة والقوة، فقد اندلعت الثورة التونسية تضامنا مع بوعزيزي مما أدى لسقوط النظام.
للتاريخ منطق خاص في قضايا الظلم والعدالة يصعب تفسيرها بدون التعمق بالنفس الإنسانية. فالتاريخ ليس منسجما على الدوام مع النظرة الأمنية التي تسود لفترات، ولا هو منسجم مع مدارس القمع والهرمية في السلطة التي تنتصر لفترات وتحقق حالة خوف تشمل كل الناس. الحس الإنساني بالعدالة أحد أهم محركات التاريخ والتغير.
إن الزلزال الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والإنساني لا يحدث كل يوم، لكنه يحدث عندما تتجمع عوامل تكبر النظام وحالة قمع مستمرة مع عدم احترام قطاع كبير من الناس والشعب في ظل تخبط في صنع القرار السياسي والأمني والاقتصادي.
وتمثل حادثة ووترغيت الشهيرة ودور صحيفة الواشنطن بوست في كشف الغطاء عن تجسس الرئيس نيكسون على غريمه في الانتخابات الأمريكية عام 1971، واحدة من أهم الحوادث المعبرة عن سوء استخدام السلطة في دولة ديمقراطية لديها إقتصاد نشط. دور الصحافة والرأي العام أديا في النهاية لاستقالة الرئيس ومحاكمة فريقه وسجن معظمهم بسبب إنتهاكهم للمبادئ الدستورية.
ومن لا يذكر قوة بل وبطش النظام الألماني الشرقي الشيوعي طوال عقود الخمسينيات حتى أواخر ثمانينيات القرن العشرين. كان ذلك النظام من أخطر الأنظمة الشيوعية في ممارسة البطش ووسائل التعذيب.
يبدو أن المدرسة الألمانية الشرقية هي التي علمت عددا من الدول العربية خاصة مصر وليبيا والعراق وسوريا أنواعا مختلفة في وسائل التعذيب وتصفية المعارضين. ويبدو ان تلك التجارب انتقلت لمعظم الدول العربية الأخرى.
لكن ألمانيا الشرقية التي صدرت لنا الكثير من وسائل التعذيب انتهت كدولة وكنظام وذابت في ألمانيا جديدة تتبنى حقوق الإنسان والديمقراطية. ألمانيا الشرقية المرعبة خرجت من التاريخ، إذ لا يذكر العالم تلك الحقبة إلا بصفتها فترة ظلامية.
الحس الإنساني لا يستسيغ التصفيات والاغتيالات وإسكات الصحافيين والكتاب بوسائل الغدر. كل كاتب وصحافي بل كل مسرحي ومفكر وأستاذ وسينمائي يمتهن التعبير بإمكانه أن يشعر بما شعر به خاشقجي عندما واجه اللحظة القاسية الصعبة أمام قاتليه، لهذا علينا ان لا نستغرب التعاطف الذي حظي به على كل صعيد في العالم. الرأي العام قوة عالمية، ازدادت تأثيرا بسبب السوشال ميديا ووسائل التواصل في العالم كله. كل شيء يمكن مشاهدته، كل جريمة تنقل بواسطة كل الناس والمواطنين لكل المعمورة.
العالم يتغير، وهو يزداد تغيرا، والأنظمة التي لا تعطي مساحة للرأي والرأي المضاد ولا للصحافة في بلادها ولا للمجتمع المدني وتمعن في سجن المعارضين توضع تحت المجهر. وعندما تقع أخطاء كبيرة وتجاوزات هائلة كاغتيال أو خطف أو تصفية تحت أعين العالم فأن هذا المجهر يصبح قضية الرأي العام العالمي والمحلي.
لم أر متابعة على الصعيد العربي والرأي العام العربي كتلك المرتبطة بما وقع مع الصديق جمال خاشقجي سوى في أيام الربيع العربي. لقد أحيت عملية قتله ووحشيتها شعور العرب من المحيط للخليج بضرورة التغيير لمصلحة الإنسان وحقوقه، لكنها بنفس الوقت أحيت موقفا عالميا صلبا مع حق التعبير وحق الحياة. لقد دخلت قصة جمال خاشقجي وطريقة تصفيته التاريخ العربي والعالمي من أوسع الأبواب.