هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
شهد الاجتماع الثالث والسبعون للجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الأسبوع خطاباً "ثورياً".
كثيراً ما
استخدم العديد من السياسيين في الماضي منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة لانتقاد
المنظمة الدولية، وللتنديد بانعدام المساواة على مستوى العالم وبالحروب وبالفقر
وبالحصار، ولكن لم يحصل من قبل أن شن أحد هجوماً صارخاً وقطعياً على العولمة.
في عام 2005، استخدم زعيم فنزويلا الراحل هيوغو شافيز خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لتحذير المجتمع الدولي من "عولمة نيوليبرالية مخيفة" ولكنه أضاف أنه "يوجد أيضاً واقع متمثل في عالم مترابط ومتواصل ينبغي علينا أن نواجهه ليس بكونه مشكلة وإنما بكونه يشكل تحدياً".
لكن هذه
المرة، ذهب زعيم حديث عهد بالثورة إلى ما هو أبعد من ذلك. إنه رئيس الولايات
المتحدة الذي قال: "إننا نرفض عقيدة العولمة ونقبل بعقيدة الولاء للوطن".
دالة فارغة
صدرت هذه العبارة الغريبة ليس فقط من شخصية ما كان أحد ليتوقع أن تصدر عنها، وإنما في المبنى والمدينة والبلد الخطأ. لقد جاء رفض هذه "العقيدة"، عقيدة العولمة، من داخل مبنى الأمم المتحدة، بيت جميع المعتقدات في العالم، وفي مدينة نيويورك، بيت ما يقرب من ثمانمائة لغة.
وجاء إشهار
"الولاء للوطن" عقيدة من داخل الولايات المتحدة، التي باتت أشبه بالبوتقة.
في تلك اللحظة الغريبة، وجد العالم نفسه في موقف صعب وهو يجهد لفهم المقصود من
الدالة الفارغة "نحن".
لو كان هذا
الخطاب مما يلقى داخل المنتدى الاجتماعي العالمي أو في أي من الاجتماعات اليسارية
الراديكالية الأخرى، لما لفت انتباه أحد. لو أننا قدر لنا أن نعود إلى الماضي، إلى
ما قبل رحلة ترامب ما بين العقائد، لكنا أخبرنا المتظاهرين في الاحتجاجات التي
نظمت عام 1999 ضد العولمة في مدينة سياتيل: "لا تقلقوا، فبعد أقل من عقد من
الزمن، سيكون دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، وسوف يتبنى مواقفكم ويدافع
عنها".
لربما قبل
المتظاهرين حينها بفكرة أن يصبح دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة من باب
احترامهم لعلم الاحتمالات، ولكنهم كانوا قطعاً سيرفضون، ولو من باب الافتراض فقط،
فكرة أن يصبح للولايات المتحدة رئيس –وخاصة رجل أعمال مثل ترامب– يشن هجوماً على
عقيدة العولمة ويتبنى سياسات مناهضة لمبدأ التجارة الحرة.
لقد أصبح
واقعاً ما لم يكن قابلاً للتصديق. فلقد ألقى ترامب أمام الجمعية العامة للأمم
المتحدة أكثر الخطابات "ثورية" على الإطلاق، ونجم عن ذلك العديد من
المتناقضات الجديدة. فبينما يشهد العالم انزلاق التعددية إلى ثنائية فوضوية، فها هو
ترامب يفتح طريقاً جديداً باتجاه أحادية بدائية تقوم على "مبدأ
الواقعية". إذا لم تكن تلك محاولة لإحياء نظرية ميتة في العلاقات الدولية،
فلابد أننا على وشك الولوج في مرحلة زمنية مثيرة للاهتمام.
غامض وغير
مألوف
سوف تقف هذه المرحلة الجديدة الآخذة في التشكل وجهاً لوجه أمام الدالة العائمة، والمتمثلة في عبارة "نحن"، التي يستخدمها ترامب. من الواضح تماماً أن "نحن" هذه لفظة غامضة وغير مألوفة، ليس فقط لبقية العالم، بل وكذلك للولايات المتحدة كما نعرفها.
لقد هضم
العالم في فترة رئاسة جورج دبليو بوش كل أنواع نظريات المؤامرة لتفسير من المعني
بلفظة "نحن". في نفس الوقت، تحددت معالم "نحن" الأمريكية من
وجهة نظر العالم لتعني المحافظين الجدد الذين كانوا يعيشون حتى تلك اللحظة بعقلية
الحرب الباردة. وحينها، بالغ الناس في تقدير نفوذ مشروع القرن الأمريكي الجديد
وتأثير تداعياته.
لقد نجم عن
هجمات الحادي عشر من سبتمبر الدموية ثم احتلال كل من أفغانستان والعراق إيجاد
نظريات مؤامرة غير خاضعة للاختبار. لو لم يكن المعسكران سعيدين فقد كانا راضيين.
كانت الشخصيات
المحافظة الجديدة المهمة قد عرفها العالم على مدى سنوات، وهي التي تتمتع بقدرات
ذهنية معتبرة، ولديها خبرات لا تنكر في إدارة شؤون الدولة، ومن خلفها تاريخ حافل.
وعلى الرغم من
أن إجابتها الخاطئة على هجمات الحادي عشر من سبتمبر أفرزت خطوط تصدع سياسية في
الشرق الأوسط وهمشت دور الأمم المتحدة، فقد اعتبر ذلك مجرد سوء استخدام للمؤسسات العالمية
ولم يكن ينظر إليه على أنه هجوم يستهدف وجودها بالذات.
أما
"نحن" الأمريكية الجديدة فهي إلى حد كبير غير معروفة لدى العالم. ترامب
هو الشخصية الشهيرة فيها، وهو الشخصية التي جاءت على ظهر موجة من الشعبوية
العالمية. تجده لا يتردد في استعارة مفاهيم الحركة المناهضة للنسق العام، بل وحتى
بعض المفاهيم الاشتراكية.
في مثل هذا
الجو تستخدم مفاهيم التجارة الحرة والاستقلال والسيادة والعولمة والهيمنة جزافاً
دون الارتكاز إلى أية رؤية كونية ملموسة.
تمرد جسور
في خضم الركود السياسي العالمي، جاءت تصريحات ترامب الجديدة لتصب الزيت على النار. فقد باتت الولايات المتحدة في المركز من اضطراب سياسي عالمي. قد يشهد العالم تحفيزاً لخطوط التصدع الاقتصادية فيه ثمناً لرفض ترامب للعولمة وقبوله للقومية التي ترى تفوق العنصر الأبيض على غيره. ولعله من المهم ملاحظة أن أكثر خصلة يُحتفى بها من خصال الشعبوية الحالية هي قصر نظرها السياسي، وهي آفة معدية وشديدة الخطورة.
من المؤكد أن
تمرد ترامب الجسور ستكون له أصداؤه في جنبات عديدة من المعمورة. وسوف يساهم في
مزيد من التآكل في كيان المنظومة الدولية ما نشهده من تشوه في التجارة العالمية
وشلل في المؤسسات الدولية وركود في السياسة العالمية.
إن آخر ما
يحتاجه الاقتصاد السياسي العالمي، والذي بني على حالة من انعدام المساواة هيكلياً،
هو أحادية أخرى، ومغامرة طموحة أخرى على حساب الفئة الأكثر ضعفاً في العالم.
من شأن انسحاب
الولايات المتحدة من المؤسسات الدولية ومن السياسة العالمية خلق فراغ فوضوي هائل.
لا يجدر بالعالم السعي لفهم "نحن" الأمريكية الجديدة كما يتحدث عنها
ترامب حديث العهد بالثورة، وإنما يتوجب عليه التركيز على احتواء الأضرار الناجمة
عن ذلك من خلال التعامل مع النتائج الطبيعية لواقع "أمريكا آخر".