هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تضرب العرب المثل في شدة الغضب ببيت شعر شهير للشاعر العباسي الفذ
بشار بن برد وهو يمتدح عشيرته ويقول أن غضبتها تهتك حجاب الشمس أو تجعلها تمطر
دما، فيقول:
إذا
ما غضبنا غضبة مضرية ** هَتَكْنَا حِجَابَ الشَّمْسِ أَو مَطَرَتْ دَما
ويبدو
أن غضبة الولايات المتحدة الأمريكية على المحكمة الدولية الجنائية الأسبوع الماضي
كانت غضبة مضرية أو أشدّ مضاضة. جون بولتون مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض،
قال وهو ينفث غضبه على المحكمة: "سنمنع قضاة المحكمة والمدعين العامين فيها
من دخول الولايات المتحدة".
وليس هذا فحسب بل قال مضيفا: "سنستهدف أملاكهم بعقوبات في إطار
النظام المالي الأمريكي، وسنطلق ملاحقات بحقهم عبر نظامنا القضائي".
المحكمة الجنائية التي تستأسد على الدول الضعيفة لم تطلب محاكمة
رؤساء أمريكيين أجرموا في حق شعوب وأمم عبر العقود الماضية؛ بيد أن الغضبة المضرية
جاءت بسبب نيتها فتح تحقيق حول جرائم حرب محتملة قد يكون ارتكبها أفراد في الجيش
الأمريكي في أفغانستان وهي حقيقة ماثلة.
بل إن بلتون ذهب أبعد من ذلك حين ضمّن تحذيره الإسرائيليين بقوله:
"في حال استهدفتنا هذه المحكمة أو استهدفت إسرائيل أو حلفاء آخرين لنا، لن
نقف مكتوفي الأيدي". واعتبر المسؤول الأمريكي المحكمة غير شرعية وتهدد سيادة
بلاده. ومعلوم أن الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما كان قد تعهد بتطوير تعاون
بلاده مع المحكمة المغضوب عليها.
والمفارقة
أن واشنطن ظلت ترفع سلاح المحكمة وتستخدمه سياسيا في ملاحقة مسؤولي الدول التي لا
تروق لها سياساتها والتي تصطدم بمصالحها. فهل انتهى الزواج الآثم الذي يجمع بين
تلكم المحكمة والولايات المتحدة أم إنه سيبقى زواج مسيار أو زواج متعة تلجأ إليها
واشنطن وقت ما تريد دون أن تلتزم بشروط النكاح الشرعي؟
فزواج المتعة زواج مؤقت إلي أجل يقع بعده الطلاق. وزواج المسيار
توافق فيه الزوجة على التنازل عن حق إقامة الزوج معها إقامة دائمة ويحق له أن يأتي
إليها متى ما شاء. ويبدو أنه لا سبيل أمام المحكمة الجنائية إلا أن ترضى وهي تواجه
غضب وجبروت واشنطن بذلك الزواج المصلحي، مسيارا كان أو متعة. وهو أمر يتسق مع
اختلال معايير العدالة الدولية المزعومة. يشار إلى أن المحكمة الجنائية قالت بصوت
خفيض وخجول ردا على غضبة واشنطن، إنها ستواصل جهودها و"لن تثنيها"
التهديدات الأمريكية عن عملها.
لقد
أصبح نظام المحكمة ساري المفعول في الأول من يوليو 2002. وتقول أدبيات
"الجنائية الدولية" إنها أول محكمة مستقلة ودائمة وقادرة على التحقيق
ومحاكمة أولئك الأشخاص الذين ارتكبوا أشد الانتهاكات للقانون الإنساني الدولي.
ولهذا فإن وجود المحكمة أصبح ضرورة ملحة لإنهاء وردع الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني
الدولي التي قد ترتكب مستقبلا.
لكن
بعد نحو 7 عقود من المزاعم برسوخ وتجذر معاني وقيم العدالة لا تبدو اليوم هذه
المحكمة بأدبياتها وأطرها القانونية النظرية البراقة إلا أداة سياسية وعصا يرفعها
الكبار في وجه إفريقيا السوداء على وجه الخصوص. كيف لا وقد خرجت تلك المحكمة من
رحم تصفية الحسابات الاستعمارية القديمة، وتأسست على نتائج الحرب العالمية الثانية.
ولعل
أشهر المطلوبين لدى المحكمة حاليا هو الرئيس السوداني عمر البشير وكرّست ملاحقتها
له شعور الأفارقة بأنها موجهة ضدهم وظلوا ينظرون إليها باعتبارها عدالة الرجل
الأبيض. وجاءت ملاحقة البشير بدعم وتحريض من الولايات المتحدة نفسها حيث قادة حملة
في مجلس الأمن الدولي تمخضت عن قرار بإحالة الاتهامات الموجهة للبشير وعدد من
مسؤوليه إلى المحكمة الجنائية.
وعلى
إثر ذلك أيد الاتحاد الأفريقي الانسحاب بشكل جماعي من المحكمة، دون أن يكون قرارا
ملزما. وكانت جنوب أفريقيا وبوروندي قد انسحبتا من قبل، واتهمتا المحكمة
بالاستهانة بسيادتهما واستهداف الأفارقة بشكل غير عادل. وكانت نحو 34 دولة أفريقية
-ليس من بينها السودان- قد وقعت على ميثاق روما، الذي يقضي بتشكيل المحكمة
الجنائية.
عن صحيفة الشرق القطرية