هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يدرك كل المتابعين للشأن التركي أن عقدة العلاقة بين تركيا المسلمة والغرب المسيحي عقدة تاريخية ضخمه، ومليئة بكل أسباب استمرارها وتزايدها في التعقيد، ويكفي أن نعلم أن الخريطة السياسية والجغرافية للمشرق، ما هي إلا محصلة الصراع التاريخي الطويل بين تركيا وأوروبا وأمريكا بالطبع، والتاريخ هو التاريخ والبشر هم البشر والحجر هو الحجر والشجر هو الشجر كما يقولون، وأيا ما كانت الدوافع المعلنة والخفية في حركة الأحداث، فستظل مقولة الشاعر الإنجليزي (روديارد كبلنج) الشهيرة: الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا، ستظل هذه الجملة تحمل الكثير من معاني الحقيقة التي تعكس واقع العلاقات بين الشرق والغرب، لا في التقاليد والموروث الروحي والثقافي فقط، وإنما تعكس حالة السياسة والمصالح أيضا.
كان الشرق القديم مختلفا عن الغرب القديم ولا يزال الاختلاف ولن يزول في المستقبل، لا من اختلاف التجارب التاريخية ولا من اختلاف التطلعات السياسية والاجتماعية والحضارية، وإذا ما حدثت هدنة ما بين الشرق والغرب، فإنها عادة ما تكون استثناء وتعود الأمور إلى ما كانت. حدث ذلك في الماضي البعيد والقريب، ويحدث الآن في الزمن الحاضر وكل الشواهد في كل الأحوال، تؤكد حقيقة شاعر الإمبراطورية العتيد: الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا .
وما يحدث مع تركيا الآن يسير في هذا الاتجاه ويمشي في نفس المعنى، وإن بإيقاعات مختلفة. والقصة ليست تركيا فقط، بل هو الشرق الإسلامي كله وما يمثله هذا الشرق من تحد ثقافي وحضاري، يحمل في داخله مشروع إحياء ضخم للقيم الإنسانية الكبرى، وعلى رأسها قيم العدل والرحمة والحق، وعلى أسس فكرية وأخلاقية عميقة تستند إلى خطاب إيماني صادق، يرتكز على التوحيد والعبادة للخالق الواحد والكرامة والحرية للمخلوق. وهذا ما لايطيقه الغرب ولا يريده ولا يقبله. وموقف أوروبا من تركيا الكمالية المخاصمة للدين، موقف عميق ومغروز في قلب الوعي الغربي بفكرة (الآخر/المسلم)، وهو ما قاله الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان (1974-1981)عن أن الاتحاد الأوروبي ناد مسيحي، ولا يمكن دخول تركيا فيه؛ تركيا ذات البرنيطة والحرف اللاتيني.
وأتصور أن الأزمة المالية المتصاعدة الآن في تركيا بعد سنوات من النمو الاقتصادي الناهض الذي شهدت به وكالات التصنيف العالمية (رفع صندوق النقد الدولي توقّعاته لنمو الاقتصاد التركي إلى 4.3% خلال عامي 2018 و2019 وجاء ذلك في تقرير نشره الصندوق 17/7 الماضي، قبل انعقاد اجتماع وزراء ورؤساء البنوك المركزية في دول مجموعة العشرين صاحبة أقوى اقتصاد في العالم: الاتحاد الأوروبي و19 دولة منهم تركيا، وهو الاجتماع الذي عقد بالعاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، صندوق النقد الدولي أيضا كان قد رفع في فبراير الماضي توقّعاته لنمو الاقتصاد التركي خلال 2018 من 3.5% إلى 4%)، سيكون مهما أن نعلم أن نمو الاقتصاد التركي خلال عام 2017 تجاوز حاجز الـ 11% في الربع الثالث من هذا العام على أساس سنوي، وهو أسرع وتيرة نمو يحققها الاقتصاد التركي في 6 سنوات. أقول إن الأزمة المالية الحالية تعكس في جزء منها الفكر القديم الذي لازال يسيطر على الغرب تجاه تركيا. ترامب وصف القس (أندرو برانسون) المتهم أمام القضاء التركي بأنه مسيحي عظيم، وشخص نبيل، وهو ونائبه يعتبران أن إطلاق سراح برانسون قضية مصيرية بالنسبة للكنيسة البروتستانتية والإنجيليين في أمريكا، الذين يشكلون القوة المركزية في قاعدة ترامب الشعبية في الداخل الأمريكي. ترامب وبنيس يصران على أن احتجاز القس كان بسبب عقيدته الدينية!! وإذا كان الأمر كذلك فلا يعرف أحد لماذا هو بالذات دونا عن أي مسيحي آخر؟ الرجل موجود في تركيا من 23 سنة ويرعى كنيسة بها 25 مسيحيا ولم يعترضه أحد. القصة هنا لا علاقة لها بعقيدته الدينية رغم أن القس قال عن نفسه أمام القضاء (لقد عانى تلامذة المسيح باسمه والآن جاء دوري وأنا رجل بريء من كل هذه التهم (التجسس) وأرفضها وأعرف لماذا أنا هنا..أنا هنا لأعاني باسم المسيح). الاتهامات التي زحفت إلى الرجل من عام 2016 تتصل بأحداث المحاولة الانقلابية الأخيرة وعلاقاته بتنظيم السيد /جولن، ويبدو أن لها ما يؤكدها. لكن توقيت التغريدة التي أعلن بها ترامب الحرب على تركيا هو ما يثير الأسئلة والحكايات.
كان الرئيس التركي قد قام خلال العامين الماضيين بسحب الاحتياط الذهبي من المصارف الأمريكية؛ للتخلص من ضغط سعر العملات واستخدام الذهب ضد الدولار، تلا ذلك سحب تركيا سنداتها المالية من الخزينة الأمريكية وصفرت حساباتها في أمريكا. القرار التركي لاستعادة الذهب كان خوفا من مصادرة السلطات الأمريكية احتياطها من الذهب في حال فرضت عليها عقوبات (ويبدو أنها كانت تتوقعها)، لكن من المهم هنا أن نعلم أن تركيا لم تكن الوحيدة التي سحبت أرصدتها من أمريكا، ألمانيا فعلتها واستعادت بين أعوام 2013 – 2017 نحو 300 طن من الولايات المتحدة .
مواقف الكونغرس والإدارة الأمريكية عموما تجاه تركيا تتسم بالتشدد إن لم تكن الكراهية، خاصة في الفترة الأخيرة نتيجة الاعتقاد بأن تقارب أنقرة المؤقت مع روسيا وإيران، يأتي على حساب التضحية بالعلاقات مع أمريكا. تنامي معدلات التردي في العلاقة بين أنقرة واشنطن، كان يشير إلى تفاقم الخلافات بينهما، وهو ما استغله ترامب وفعل فعلته الأخيرة. السلطان في كلمة له خلال الاحتفال بمرور 17 عاما على تأسيس حزب العدالة والتنمية، قال سنقلب الطاولة على الولايات المتحدة الأمريكية، وسيتحول السحر على الساحر، مؤكدا أن تطورات الليرة التركية لا علاقة لها بالمنطق الاقتصادي، وأن ترامب يشن حربا تجارية على العالم بأسره وشمل بها بلادنا (رئيسة صندوق النقد الدولي قالت في الاجتماع الأخير لدول العشرين، إن الحرب التجارية العالمية التي تشنها أمريكا على العالم، يمكن أن تؤدي إلى فقدان مئات مليارات الدولارات من إجمالي الناتج المحلي العالمي).
الباحثون يقولون إن ارتفاع معدل التضخم مقابل انخفاض قيمة الليرة التركية في يوم واحد، حدث في روسيا عام 2014 حيث اضطر معه البنك المركزي الروسي إعلان تدابير عاجلة لدعم النظام المصرفي، وهو ما بدأه بالفعل البنك المركزي التركي.
تقول الحكاية أيضا، إن أردوغان الذي وثق علاقته بروسيا والصين وإيران بعد محاولة الانقلاب الفاشلة قبل عامين، لم يفك أواصر ارتباطه بواشنطن وحلف الناتو، إنما (يعتقد بتراكم المكتسبات من أمريكا وخصومها على السواء على المدى البعيد)، لكن الدول الثلاث قد لا تتدخل في الأزمة الأخيرة لصالح تركيا، بل ربما يدفعها هذا الأمر إلى زيادة الخناق عليها أملا بسحبها من حلف الناتو تماما، وانضمامها إلى منظمة شانغهاي للتعاون، وهو ما سيمثل كارثة استراتيجية لأمريكا وأوروبا.
العداء للرئيس أردوغان وسياسته الإقليمية خلال السنوات الأخيرة يزداد، ومواقفه الواضحة إزاء العديد من القضايا المشرقية جعلت محاولة تقويض حكمه وزعزعة استقراره هدفا أساسيا للعديد من الجهات المتضررة من ذلك. وسمعنا عن دولة خليجية كان لها دور كبير في الانقلاب العسكري الفاشل، ويقولون أيضا إن ظل هذه الدولة موجود الآن في الأزمة الحالية التي يبدو أنها كانت تحاك بليل طويل.
أغلب كتاب ومحرري الصحافة عندنا اتسم موقفهم مما يحدث في تركيا الآن بمزيج من الشماتة والجهل. وحده الأستاذ جميل مطر كان أمينا وموضوعيا وعلق على الأحداث الخميس الماضي 16/8 في جريدة الشروق قائلا، إن العقبة الوحيدة التي يمكن أن تتحطم عليها كل آمال وتهدئة التوتر بين تركيا وأمريكا، ستكون (الإسلام) عقيدة تركيا الدينية، فترامب وبانون_المستشار السابق بالبيت الأبيض_كلاهما يكرهان هذا الدين ولن يتغير.
بحسب المؤرخ الكبير د/بشير نافع، فإن الأزمة قد تستمر قليلا، لكنها لن تنال من قوة ورسوخ الاقتصاد التركي، مؤكدا أن مقدرات الاقتصاد التركي لايمكن مقارنتها بحالات مثل اليونان أو البرتغال وإيرلندا. كما أن الدين الحكومي لم يزل مقارنة بالدخل القومي (28 بالمئة) أقل بكثير من مؤشرات ديون معظم الدول الأوروبية.
أختم بمقطع من قصيدة شاعرنا الصوفي البليغ عبد الفتاح مصطفى (أقول أمتي):
أقول أمتي /يارب أمتي /جوهرة التوحيد /و(حكمتي القديمة )/عالمي الجديد /أنا بها وفيها..
لكن الغرب يا شاعرنا العظيم لايريدك بها ولا فيها.
عن صحيفة المصريون المصرية