هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
هل يمكن تجميع التاريخ، وطحنه، وعجنه، وإعادة إدخاله إلى أفران السياسة لإنتاج خبز جديد؟ علامة الاستفهام هذه ربما تفتح لنا بابا واسعا ندخل منه إلى براح غير ساخن، لنقرأ مخرجات رحلة صاخبة للرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى بروكسل وهلسنكي.
لقد أبدع الرئيس الأمريكي سياسة داخلية وخارجية في جميع المجالات، تتداخل فيها اللغة وزوايا المواجهة وخطوط الهجوم.
استطاع ترمب أن يسترجع كل المحطات التي وقف فيها التاريخ العالمي الحديث، الذي رسم خطوط الطول والعرض على خرائط السياسة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، والتي كانت الولايات المتحدة الرسام الأساسي لها. القمم التي اجتمع فيها قادة الحلفاء من طهران إلى الدار البيضاء وبوتسدام ويالطا، بقيت آثارها وقودا محركا للسياسة الدولية على مدى عقود ساخنة.
رؤساء الولايات المتحدة، منذ روزفلت وترومان وآيزنهاور، ربطوا أوروبا الغربية بحبل عسكري عملاق عابر للأرض والزمان، هو حلف شمال الأطلسي، القوة العسكرية الأكبر في التاريخ البشري. قوة عسكرية سياسية تواجه قوة عسكرية آيديولوجية هي الشيوعية، بقيادة الاتحاد السوفياتي. الرئيس دونالد ترمب ليس ظاهرة سياسية هبَّت من تحت الأرض الأمريكية؛ بل هو نتاج تراكم مسيرة مركبة وطويلة في أمريكا، من تنقل السلطة بين كيانين سياسيين كبيرين هما الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي. كل منهما يقدم سياسة يقودها رئيس، في رؤيته أضواء وظلال من تطلعات الشعب الأمريكي وآماله وشكواه.
هناك رؤساء تركوا بصماتهم على الواقع والقادم، وفي مفاعيل التفكير السياسي الأمريكي.
دونالد ترمب، يرسم خرائطه بألوانه الصاخبة في داخل الولايات المتحدة وخارجها. يحسب المنتجات السياسية بالأرقام. انسحابات متتالية من ارتباطات دولية، وإعادة تصميم علاقات سابقة مع البعيد والقريب. انسحب من اتفاق المناخ الدولي، من اليونيسكو، من منظمة حقوق الإنسان، والانسحاب الكبير من الاتفاق النووي مع إيران. قرر بناء جدار على حدود المكسيك. اصطدم بشركائه في مجموعة الدول السبع. وأخيرا أشعل معركة حلف الناتو في موقعة بروكسل. اقتحم حصون الحلف من محاور عدَّة. المساهمات المالية للدول الأعضاء في ميزانية الحلف. ترمب يطلب رفع المساهمة من كل دولة إلى 4 في المائة من ناتجها القومي، ويحتج بأن بلاده تغطي 72 في المائة من ميزانية الحلف.
صحيح أن ترمب يتحدث بلغة أرقام فصحى، لكن بين طبقات صوته أنغام مقاصده الحقيقية. يريد أن يقول: هل من العقل أن تدفع أمريكا مليارات الدولارات في جسم عسكري، هو الناتو، وقد زالت كل أسباب وجوده؟ ما الخطر الذي يتهدد أوروبا وأمريكا بعد زوال الاتحاد السوفياتي وكتلته الشيوعية وإلغاء حلف وارسو؛ بل إن بعض دوله صارت حليفة للغرب؟ ماذا قدم هذا الحلف لأمريكا في السابق وماذا يقدم اليوم؟ تلك حزمة من الأسئلة يمكن أن نعتصرها من تغريدات ترمب وتصريحاته الغاضبة أو الهادئة. يرد عليه بعض قادة الناتو، بأن الحلف ساعد أمريكا في حربها ضد أفغانستان بعد عملية 11 سبتمبر (أيلول)، وقبل ذلك تدخل معها في حربها ضد يوغوسلافيا السابقة، وكذلك في العراق. لقد فتح الرئيس دونالد ترمب هذا الملف ولن يغلق بمجرد خطابات وتصريحات مجاملة في بروكسل. تصريحاته سيكون لها صدى في هلسنكي، في أثناء لقائه مع الرئيس بوتين وبعده.
إيران، مستنقع النار الذي لا يغيب عن موائد القمم العالمية الثنائية والجماعية، ستكون حاضرة بحرارتها على مائدة الزعيمين في هلسنكي. مشروعها النووي، صواريخها، الإرهاب والعنف العابر للحدود. بالنسبة للرئيس الأمريكي، الملف الإيراني هو المفتاح والقفل في العلاقة بين البلدين، وبالنسبة للرئيس الروسي بوتين، الملف الإيراني هو البرزخ والجسر، ورقة استخدمها في سوريا لتعود روسيا إلى دائرة الفعل القيادي في المسرح الدولي، وقد نجح في ذلك. لقد فتح صفحة جديدة مع إسرائيل التي لها قوة ضغط فاعلة في روسيا، وتربطهما علاقات اقتصادية متينة، وكذلك اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة. لقد احتلب بوتين كل ما يريده من الوجود الإيراني في سوريا، وهو اليوم يستخدم آخر ما بقي بضرع وجودها في سوريا عبر توظيفها في صفقة كبيرة مع أمريكا.
زيارة نتنياهو إلى موسكو قبيل قمة هلسنكي، تضيف أوراقا إلى تلك القمة؛ فرئيس الوزراء الإسرائيلي يصر على أن تراجع روسيا موقفها من الاتفاق السداسي مع إيران حول ملفها النووي، وكذلك مشروعها الصاروخي وتدخلاتها الخارجية؛ خاصة بعد موقف دول الناتو التي أعلنت صراحة مطالبة إيران بالموقف نفسه.
زيارة علي ولايتي، مستشار المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، إلى موسكو، تزامنا مع وجود نتنياهو بها، تحمل رسائل متعددة. بعضها دون شك يطلب إبلاغها إلى إسرائيل، أولها استعداد إيران لمراجعة تموضعها في سوريا، وعدم القيام بأعمال معادية لإسرائيل انطلاقا من الأراضي السورية، مقابل أن تمارس إسرائيل تأثيرا على الإدارة الأمريكية لتخفيف العقوبات على إيران. ورسالة خامنئي إلى ترمب عبر بوتين باستعداد إيران لمراجعة برنامجها النووي والصاروخي، وكذلك نشاطها العابر للحدود، مقابل تخفيف أمريكا من موقفها المتشدد ضد إيران، وعودتها إلى الاتفاق السداسي حول ملفها النووي.
إيران تدرك جيدا أن خروجها من سوريا سيؤدي مباشرة إلى ضمور وجودها في لبنان؛ بل قد يتعداه إلى نفوذها في العراق، وذلك سيكون له انعكاس قوي في الداخل الإيراني الذي يعاني من مشكلات اقتصادية واجتماعية تتفاقم كل يوم. الورقة السورية مضافة إليها الورقة الإيرانية، ستكونان عاملا تفاوضيا مهما بيد الرئيس بوتين، عندما توضع على مائدة الاجتماع العقوبات الأمريكية والأوروبية على روسيا، وكذلك ملف أوكرانيا، وجزيرة القرم التي ضمتها روسيا إليها وتسببت في فرض تلك العقوبات.
الرئيس ترمب، يرتاح للتعامل مع (الزعماء)، وهو يرى في شخص بوتين الزعيم الذي يمتلك كل القرار في بلاده، وهو يغبطه على ذلك، ويتمنى لو أن له بعض ما لبوتين من تلك القوة، ولهذا فهو لن يتردد في عقد صفقات اختراقية معه. والرئيس بوتين بعقليته الأمنية، وميراثه السوفياتي، سيعمل على أن يطرق والحديد ساخن.
موقف ترمب من حلف الناتو، سيفتح الباب لمناقشة قضايا الأمن في أوروبا والشرق الأوسط، والسلاح النووي، وكذلك الحرب التجارية التي فتح الرئيس ترمب نيرانها على الصين وأوروبا.
قمة هلسنكي ستعيد رسم كثير من الخرائط الدولية، فالرئيس ترمب له اعتراضات لا حدود لها على الموروث في المشهد الدولي، وتكتيكه أن يحقق انتصارات من دون حروب؛ لأنه يكره دفع الأموال. وفي المقابل، يحرص الرئيس الروسي أن ينتقل بين الخنادق دون إصابات. بوتين وترمب، سيترافقان وإن لم يتحالفا.
الشرق الأوسط اللندنية