هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
وُقّعت عام 1648 معاهدة "وستفاليا" التي أنهت ثلاثين عاما من الحروب الدينية في أوروبا، صحيح أنها لم تقضِ تماما على النزاعات الدينية، لكنها مهّدت الطريق لشكل التنظيم الدولي الذي استمر لأربعة قرون عقب هذا الصلح.
اتفق المؤتمرون في وستفاليا على بضعة مبادئ، لعل أهمها هو مبدأ سيادة الدول وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وبدأ يظهر مفهوم الدولة القومية، كذلك تم تعميق مبادئ فصل السلطة الدينية عن السياسية، وتجدر الإشارة هنا إلى أن العلمانيين العرب لا يقدرون على التفرقة بين أصل المطلب منذ أربعة قرون وطبيعته التي استدعت وجوده في خضمّ النزاعات الأوروبية، وبين الواقع الاجتماعي والديني في المنطقة، وهي واحدة من علامات افتقارهم لفهم طبيعة الثقافة العربية غير المنفصلة عن البعد الثقافي الديني، لكن ليس هذا موضع الحديث حول هذه النقطة.
عقب وستفاليا بدأت تتشكّل ملامح توازنات قوى سياسية في أوروبا، وبدأ يتشكّل كذلك نمط دولي عام يقوم على مجموعة مبادئ يتم الرجوع إليها -ولو جزئيا- وربما يربط البعض بين هذه النتائج وبين الوضع الحديث للسياسة كعلم وممارسة، ولا ريب أن هذه الفترة شهدت النتاج الفكري للآباء المؤسسين لعلم السياسية بوضعه الحالي كجان بودان ومكيافيللي وهوبز وجون لوك ومونتسكيو وغيرهم من مؤسسي النظريات الاجتماعية.
بعد ما يزيد على قرنين ونصف اشتعلت الحرب العالمية الأولى لتدمر وتحرق أوروبا، التي لم تهدأ نزاعاتها ولا حروبها منذ وستفاليا، وانتقلت الحرب إلى منطقتنا في النزاع مع الدولة العثمانية، لتنتهي الحرب بمؤتمر باريس للسلام مطلع 1919، الذي دعا لتشكيل رابطة دولية عالمية لضمان الاستقلال السياسي والسلامة الإقليمية للدول صغيرها وكبيرها، فكانت "عصبة الأمم"، ومن المهم الإشارة إلى المسمّى (مؤتمر باريس للسلام)، إذ لا بد من كلمة جذابة وكاذبة لتستر سوْأَة الحرب التي خلّفت ملايين القتلى، ولا يوجد أنسب من كذبة "السلام" التي استمرت حتى الآن.
من المهم عند التوقف على محطات التنظيمات الدولية، النظر إلى مَن وراء إنشائها وما قرروه فيها، وهنا كانت النشأة لممثلي دول الحلفاء الرئيسية الذين انتصروا في الحرب "المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا واليابان" ولم تنضم لها الولايات المتحدة بسبب تحفظها على تصرفات القوى الأوروبية المنتصرة.
أما ما قرّروه سيبدو من عمل اللجان الرئيسية ومنها: "لجنة نزع السلاح، ولجنة الرِّق، وهيئة الأفيون الدائمة، ولجنة الانتداب". ما سيبدو بعد ذلك أن لجنة نزع السلاح أخفقت، ما أدى لانحلال العصبة فيما بعد ونشوب الحرب العالمية الثانية، ولجنة الرق كافحت الاسترقاق وتجارة الجنس، أما هيئة الأفيون فكانت لتقنين تجارة المخدارات "قبل تجريمها فيما بعد"، لكن ما يعنينا هنا لجنة الانتداب.
عملت لجنة الانتداب على تقسيم "غنيمة الحرب" فقامت بالاستيلاء على الأراضي التابعة للدولة العثمانية والإمبراطورية الألمانية وتقسيمها على ست دول: "المملكة المتحدة وفرنسا واليابان وبلجيكا وأستراليا ونيوزلندا"، وتم تقسيم أقاليم الانتداب "الاحتلال" إلى ثلاث فئات الفئة الأولى (أ) وتوصيفها مهم، إذ كانت للأقاليم التي وصلت إلى مرحلة متطورة يمكن معها الاعتراف باستقلالها مؤقتا تحت شرط المساعدة الإدارية بمعرفة دولة الانتداب، وكانت أقاليم هذه الفئة هي أجزاء من الدولة العثمانية قبل هزيمتها.
إذًا كانت الأقاليم الخاضعة للدولة العثمانية متطورة وقريبة من وصف الدولة -وفق تقسيمهم- ما ينفي فكرة الاحتلال العثماني، إذ الاحتلال يمسخ مظاهر التمدّن والتحضّر، ولا يسمح بأي مظهر من مظاهر التطور، ويمكن النظر لما جناه الاحتلال الفرنسي على دول عديدة أو الاحتلال الايطالي أو الأسباني أو غيرهم، ما يشير بجلاء إلى الفارق بين الرضا بالإدارة العثمانية "إلى ما قبل ظهور الدعوات القومية"، وبين وصف الاحتلال وممارسته، وربما كانت أقاليم الدولة العثمانية ينطبق عليها وصف الدولة بشكل كامل، لا على وجه التقريب.
أما أقاليم الانتداب (ب، ج) فكانت تنحدر مظاهر التمدن فيهما عن الفئة الأولى لتبلغ أدناها في الفئة الثالثة، ولم تبدأ تلك الأقاليم في الحصول على استقلالها -عدا العراق- سوى عقب الحرب العالمية الثانية في معاناة استمرت حتى نهايات القرن الماضي، إذ انتقلت أعمال لجنة الانتداب لما سمي بلجنة الوصاية في الأمم المتحدة.
قبل الانتقال لوريثة العصبة، تجدر الإشارة إلى أن دولة من الدول دائمة العضوية "إيطاليا" قامت بغزو أثيوبيا مستخدمة أكثر الأسلحة تطورا في ذلك الوقت، وأحدثت دمارا كبيرا في الهضبة الأثيوبية، مما يشير لمدى صدقية الدعاوى والمبادئ التي تم إعلانها لإنشاء العصبة، ثم انهارت عصبة الأمم عقب إخفاقات جوهرية عديدة، تخالف عهد العصبة ومبادئها، واندلعت الحرب العالمية الثانية في 1939، لكن الإعلان الرسمي لحلّ العصبة كان في 18 أبريل 1946، وعُهدت إلى هيئة خاصة مهمة تصفيتها.
عُقدت عدة مؤتمرات بدءا من عام 1941 لإحلال "السلام" إلى أن عُقد مؤتمر سان فرانسيسكو عام 1945، وتم توقيع ميثاق الأمم المتحدة التي وضع نظامها وشروطها "للمرة الثانية" الدول المنتصرة، وتم إنشاء أحد أحطّ سبل تقنين الاستبداد بمقدرات الأمم بما سُمّي الدول الدائمة العضوية بمجلس الأمن، لتفرض شروطها على الدنيا كلها في المسائل الحيوية بحق الاعتراض التوقيفي "الفيتو"، وارتضت دول العالم ذلك الوضع المهين، وأصبح الذين يتحكّمون في مصائر الدنيا، يمارسون أشد أنواع الازدواجية وادّعاء الشرف، رغم أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في التاريخ التي استخدمت القنبلة الذرية في مواجهة خصومها بوضاعة بالغة، وببجاحة مقابلة عندما تتحدث عن "العالم الحر واحترام حقوق الإنسان" وفُرضت شروط على الدول المنهزمة -لا تزال سارية حتى الآن- كحجم التسليح ووضع قواعد عسكرية على أراضيها من دول الجيوش المنتصرة، مثل قاعدة رامشتاين الجوية الأمريكية في ألمانيا.
ما يعنينا من هذا الحديث، أن النظام الدولي كان -ولا زال- ابن غير شرعي لحروب آثمة أودت بحياة عشرات الملايين، وتم استخدام تلك التنظيمات لتبرير قرارت تخدم مصالح الدول الكبرى المنتصرة فقط، ولا تضع أي اعتبار لمصالح الدول الصغرى، وأصبح القانون الدولي رهنا لتفسيرات القوى العظمى، أو تضرب به عُرض الحائط إن لم يناسبها، وأصبحنا بدلا من أن نقول "التاريخ يكتبه المنتصرون" نحتاج إلى القول بأن "القانون يصوغه ويفسره كذلك المنتصرون"، والكارثة أن المنتصرين أخرجوا من علاقة آثمة ابن سِفَاح يتحكّم في مصائر الخلائق برضاهم دون تململ فعليّ يغير الأوضاع.
ما يبدو أن قضية "المساواة بين الدول" ستظل مجرد نظرية بشكل عام، لا تلمس الواقع إلا إن كانت بين الدول الكبرى، أما الدول الأقل مكانة فستظل على هامش الأنساق السياسية المتتالية، ما لم تصبح لديها "قوة" تجعلها تناطح الدول الكبرى، إما قوة ذاتية لدولة ما، أو تكاتف جماعي لمجموعة دول، مما يطرح سؤالا حول جدوى بقاء النظام العالمي بصورته الحالية للدول الضعيفة، وسؤالا آخر عن اللحظة التي ستقرر فيه بعض الدول إنشاء تنظيم دولي جديد يتجاوز بعضاً من عيوب التنظيمات الدولية المتعاقبة.